حلت ذكري الأستاذين الراحلين رجاء النقاش ومجدي مهنا، في الأيام الماضية، وكلاهما كان كاتبا حرا، عاشقا للوطن والناس وكلاهما كان غزير العطاء، الأول من جيل الرواد العمالقة والثاني من جيل المستقبل الذي كنا نشاركه ويشاركنا الحلم بوطن أفضل، وخطف من بيننا خطفا، وهو لا يعز علي خالقه. عرفت الأستاذ رجاء النقاش معلماً قديرا، وانسانا لا يجاريه أحد في انسانيته، واحساسه بالبسطاء؛ وكانت أول مرة أشاهد فيها " الأستاذ " بعد انتقالي من روزاليوسف إلي دار الهلال، كانت مساء أحد أيام الاثنين، ومررت بالطابق الأول، حيث مكتبه الذي كان يوما هو مكتب الكاتب العملاق فكري أباظه، وإذا بطابور من الزملاء السعاة والفراشين، وكنت أحتاج إلي تفسير ربما هناك منحة لنا توزع الآن، وكنت حديث العهد بالعمل في دار الهلال، ونفسي مفتوحة ع الآخر للقبض! بسرعة ناديت علي الزميل صلاح سعيد، وجاءني بطريقة أسرع من الصوت.. عيب وحيد في عم صلاح، هو أنه قبل أن يجيب عن أي سؤال " يضحك الأول "، فهو له فلسفة في هذه الحياة، ونظريته ولامؤاخذة هي أن كل شيء في هذه الدنيا من حولنا، سببا كافيا لأن نضحك من أعماق قلوبنا.. ما علينا.. طلبت منه أن يفسر لي سبب هذا الطابور الذي أراه، فقال بعد أن حمد الله واستغفره: ما فيش حاجة يا بيه.. ده الأستاذ رجاء النقاش بيقبض.. ثم تبع ذلك بضحكة، فقد كان يعلم بأن هذه هي إجابة ناقصة.. وأنني لازلت في حاجة إلي مزيد من التفسير، فسألته: هل كل هؤلاء جاءوا ليضعوا بين يدي الأستاذ راتبه المتواضع؟ مرة أخري ضحك صلاح، فيما أنا " أغلي "، قال: لأ يابيه، واحد بس هايقبض الأستاذ، والباقيين ها ياخدوا منه القبض.. ها ها! صلاح اتعدل معايا..ايه الحكاية؟ الأستاذ رجاء متعود يفرق كل مرتبه علي السعاة والفراشين..وينفض إيده..ويروح! فجأة ابتعدت عن عم صلاح..وتوجهت في اتجاه الطابور..ليس لآخذ نصيبي ولكن لأعانق هذا الرجل، المصري، الكريم.. الإنسان..وصلت إليه وعانقته بشدة، ولم أتركه إلا بعد أن لمحته يضع يده في جيبه! بعد أن تأكدت من إنسانية وشفافية هذا الرجل، وعشقه للآخر، أرسلت إليه في منزله حوارا لي مع شريهان، حيث قابلتها في الواحات أثناء تصوير فيلمها الأخير" عرق البلح "، وانفردت فيه بأخبار جديدة "لانج"، فإذا به يحتفي بالحوار بشكل "برجلني" ويجعل منه مادة لكل عناوين الغلاف، فضلا عن نشره علي سبع صفحات، وتوالي احتضانه لمحرر شاب لا يعرفه، ولم يأت إليه ب" كارت توصية " من " مامي و لا بابي" لأني أناديهم أمي وأبي، ولم يكن من خلافات بيننا إلا حكاية وضع يده في جيبه، التي كنت أرفضها بعنف، مثلما طلب أثناء اجتماع أن يتصل أحد بالفنانة سميرة احمد ومحمد فاضل واسامة انور عكاشة لاستطلاع الأمر في خلافات بينهم، ولأني علي صلة طيبة بثلاثتهم، فقد أخذت زمام المبادرة، واتصلت بهم اثناء الاجتماع، فإذا بالاستاذ يخرج حزمة من الأوراق المالية " تمن المكالمات "، فأخبرته بأدب أنني" خط مش كارت " وانتهت الأزمة ! وتتلمذت علي يديه أثناء عملي في الشقيقة الكواكب، وفتح لي ذراعيه وعقله، وأعطاني فرصاً بلا حدود، وعندما توج الله هذه الأعمال المحاطة برعاية وتشجيع الأستاذ بجائزة منحتني إياها نقابة الصحفيين، إذا به يخصص الافتتاحية التي كتبها بقلمه الملهم الواعي للكتابة عن اثنين من أبناء دار الهلال، كنت واحداً منهما. أما الصديق الغالي الأستاذ مجدي مهنا، فقد عرفته منذ أن كنت طالبا في الجامعة لنا نشاط طلابي، وكنا نقرأ لمجدي مهنا الذي كان يغطي نشاط الجامعات في الشقيقة الوفد، ثم عملت في المؤسسة التي تربي فيها مهنا- روزاليوسف - وتوطدت علاقتنا بعد ذلك خاصة خلال الفترة التي شاركته فيها دراسة الكمبيوتر في النقابة، وكان يداعبني بلقب " يوزر"..تعالي اعزمك علي شاي يا يوزر! فقد كانت هذه الكلمة تثير ضحكاته بروحه البريئة الطفولية. كرموا رموز هذا البلد.. فنحن لا ينقصنا القدوة.. ولكن ينقصنا أن نبرز أسماءهم وسيرتهم العطرة.. وأن نجعلهم في مقدمة الصفوف.. ولو صفوف الذاكرة !