ليس ضروريا أن تكون ثيابنا ناصعة البياض، مادام هذا الأمر صعبا، بل مستحيلا، يكفي أن تكون قليلة البقع، ورجاء النقاش الذي أحببته منذ عرفته كاتبا، ومنذ عرفته إنسانا، كان صاحب ثوب نظيف، أكاد أقول صاحب ثوب يميل إلي الشفافية والنصوع، ولكنه، وكما يليق بإنسان طبيعي، لا يخلو من البقع، هذا هو قدر الإنسان وشرط حيويته ووجوده، أن يخطئ ويتعلم من خطيئته، وأن يصيب ويتألم من صوابه، لما قرأت نساء شكسبير لرجاء، داخلني الشعور بالزهو والافتتان، أحب هذا النوع من الكتب، وأعرفه، نساء إبسن، والحريم الفرويدي، ونساء إليوت، ونساء حسن سليمان إلخ إلخ، ولكنني فوجئت بنفسي أفكر في كيفية التخلص من كتاب آخر لرجاء النقاش عن العلامة السعودي ?هكذا يسميه- عبد العزيز التويجري، وأفكر لمن أهديه، كان رجاء قد نشر فصول الكتاب مسلسلة في إحدي الصحف الخليجية، وفاة زوج ابنته أوقف تسلسلها لفترة، ثم عادت لتنتظم، وبعد أن اكتملت جمعها لتصدر في كتاب من منشورات كتاب الرياض بالسعودية، أشهد أنني تخلصت من الكتاب فعلا حتي لا تتعكر صورة رجاء في نفسي، وحتي يظل مقيما في المكان الذي شغله دائما، تعرف رجاء علي التويجري كاتبا لما قرأ كتابه (في أثر المتنبي)، رجاء يطارد المتنبي ويقرأ كل ما يكتب عنه، هكذا يعترف، لكن التويجري البدوي الذي لم يتعلم تعليما مدنيا منتظما، والذي لم يتنازل عن ثقافة بيئته وصحرائه وجزيرته العربية، التويجري هذا أدهش رجاء وبهره، وجعله إذا ذكر اسمه سبقه بعبارة أستاذي وشيخي، فيما بعد تعرف رجاء علي شخص التويجري، سواء في الجنادرية أو في القاهرة، وتعرف علي بقية كتبه، هذه القصة هي مقدمة كتابه عن التويجري، أما جسم الكتاب وفصوله كلها، فهي عرض شامل وتفصيلي لما كتبه التويجري عن الملك عبد العزيز بن سعود، ليصبح كتاب رجاء كتابا عن عبد العزيز آل سعود عبر عبد العزيز التويجري، القارئ البسيط أو القارئ الفطن سيدرك أن التويجري كان قنطرة، وأن إجلاله توطئة وبطانة في سبيل إجلال سيده، لازلت أعتقد أنه لا يوجد مبرر للخجل، فالكتابة عن الملك عبد العزيز مشروعة وواجبة، الرجل كان شخصية تاريخية فذة تستحق النظر والاعتبار، العقاد كتب عنه كتابا عنوانه (مع عاهل الجزيرة العربية)، وأمين الريحاني كتب عنه عندما كتب عن ملوك العرب، الريحاني عمل مع الملك عبد العزيز، كان كاتبه وناصحه ومستشاره، كلاهما العقاد والريحاني كتبا كتابة صريحة لا تعرقلها عقد الماضي ولا طموحات المستقبل، ولكن رجاء الجميل العذب يشعر بالخجل، ويختفي داخل عباءة التويجري، وينطق بلسانه وحنجرته، كأنه يقول ولا يقول، ويمدح ولا يمدح، كأنه يدل علي جرح في روحه بسبب خطأ ما يفعله، كأنه حليق الرأس وعلي رأسه بطحة، يحكي رجاء بصوت التويجري، طبعا، أن سعود الأول، جد الملك عبد العزيز، أنشأ دولته في الفترة ذاتها التي أنشأ فيها محمد علي دولته في مصر، وفي أوائل القرن التاسع عشر، وبطلب من الباب العالي العثماني، أرسل محمد علي ابنه طوسون علي رأس جيش للقضاء علي سعود الأول، وفشل طوسون، فأرسل حملة ثانية بقيادة ابنه إبراهيم باشا الذي نجح بصعوبة، وهدم مملكة سعود الأول الناشئة، يقول رجاء إجابة علي سؤال لم نسأله ولن نسأله، إن أول دولة عربية حديثة ليست دولة محمد علي، إنها في الحقيقة دولة سعود الأول، وأن محمد علي بأصوله وأحلامه وشواغله ومعاونيه وأتباعه ليس حاكما مصريا، وجنوده لم يكونوا جنودا مصريين، بينما دولة سعود عربية القلب واليد واللسان، ويضيف رجاء، إن الجنود الذين هزموا سعود الأول وهدموا دولته لم يكونوا مصريين، إنهم مرتزقة ألبان وأرناءوط وأرمن وفرنسيون إلخ إلخ، يضيف ذلك كأنه يعتذر عن ذنب لا يغتفر، كأنه يطلب الصفح، كأنه يقرر واقعا، كأنه مذنب وكأننا معه المذنبون، ويكمل اعتذاره بإعلان أن تلك الحرب التي انتهت بانتصار إبراهيم عسكريا، انتهت أيضا بانتصار سعود الأول فكريا وروحيا، لأن إبراهيم بعد انتصاره أصبح نقيضا لأبيه، أصبح العربي العروبي في مواجهة أبيه الألباني، ولا شك أنه تعلم دروس العروبة من إقامته الطويلة في الحجاز، انتصر سعود الأول في الفكر والروح بعد هزيمته في الميدان والسلاح، وانتصار الفكر أعظم من انتصار المادة، الغريب أن رجاء يلتذ باعتذاره ويتمادي ويري أن الجزيرة العربية كانت دائما هي حجر الزاوية في تقديم الأحلام والحلول للمنطقة كلها، فعندما غلب الشتات والتدهور والصراعات علي عرب الجزيرة، وعلي المنطقة حولها، في القرن السابع الميلادي، ظهرت الرسالة المحمدية لتحمل حلم التوحيد وترفع راياته، وعندما غلب الشتات والتدهور إلخ إلخ علي عرب الجزيرة وما حولها، في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، ظهرت الرسالة الثانية، رسالة سعود الأول لتحمل حلم التوحيد وترفع راياته، وهكذا الرسالة المحمدية رسالة التأسيس والبداية، ورسالة سعود رسالة استئناف البداية، بعد أن فرغت من كتاب رجاء استعنت بنفسي علي نفسي وتخلصت منه، وأعقبت ذلك بسؤال، ما الذي فعله الخليج بنا، لقد أملي علينا شروطه، فمنذ ظهرت سيول الخام الأسود، والعواصم القديمة تتراجع، العواصم التي كانت مراكز حضارية وثقافية، أصبحت مجرد امتدادات لعواصم الخليج، وكأن الشمس انتقلت من سماوات القاهرة وبغداد رحمها الله ودمشق وبيروت عافاها الله، لتقيم فوق المنامة ومسقط والرياض وعمان ودبي والشارقة، الشمس أيضا تخلت عنا، وأصبحت لا تشرق إلا إذا لمعت تحتها آبار الخام الأسود، الثروات المفاجئة لم تسمح بالتحول الطبيعي، لقد نقلت الناس هناك من أحوالهم القديمة إلي أحوالهم المجهولة، نقلتهم فجأة، فظلت قلوب الناس معلقة بشص أذواقهم القديمة، وأياديهم معلقة بشص الرغبة في ملذات لم يسمعوا عنها، أصبح كائن الخليج كائنين في كائن، كائن قديم في إهاب كائن جديد، كائن فقير معدم في إهاب كائن محدث نعمة ، كائن طالب رغبة مستترة في إهاب كائن طالب رغبات معلنة، وانتقلت عدواه إلي كل من ذهبوا إليه للعمل أو الرزق أو بيع الأرواح والأجساد، سارت البلاد كلها أسواقا، نحن الباعة ونحن البضاعة، صرنا جميعا كائنين في كائن، صرنا شظايا كائن، وأحيانا نفايات كائن، وغالبا نفايات فقط، تصادف أن قبضتين اجتمعتا علينا في وقت واحد، قبضة الخليج وقبضة الأمريكان، فأصبحنا محشورين بين ثقافتين استهلاكيتين تروجان لنا دان براون وعلاء الأسواني، باولو كويلهو وفاروق جويدة، سيلفستر ستالوني وخالد الخميسي، وفي استراحاتنا أخذنا نتحسر علي ذلك الخليج الذي لم يعد خليج البراءة، وأخذنا نتحسر حتي علي الاستعمار الإنجليزي والفرنسي اللذين أصبحا استعمارا أمريكيا محضا، وهكذا منذ أن بدأ عصر الانفتاح وحدود مصر مثل غربال واسع الفتحات، وهواء مصر مثل دخان لم نألفه، ومصر ذاتها محطة ترانزيت مزدحمة، فالمصري اليوم إنسان مسكين، جغرافيته الوطنية لم تعد جغرافيته المقبولة، وجغرافيته البديلة ليست جغرافيته المأمولة، وأغلب الداخلين أعراب دماؤهم تحولت وصارت من الخام الأسود، أو أمريكان دماؤهم صارت من دماء الآخرين، وأغلب الخارجين مصريون مفقودون، يحكي رجاء في كتابه عن التويجري، عن سفره إلي الجنادرية، وإلي مكة، وعن طواف ذلك الكاتب اليساري الكبير لعله لطفي الخولي حول الحرم، وعن بكائه بحرقة ودموع ونشيج، أثارت استغراب رجاء، في الجنادرية اعتذروا لطفي الخولي ويوسف إدريس ورجاء النقاش وآخرون عن عقائدهم وأيديولوجياتهم التي اعتنقوها سابقا، وأبدوا أسفهم وندمهم، وفي برنامج أمير الشعراء أو شاعر المليون سحب صلاح باشا فضل شبابنا الجميل إلي متاهته المعتمة التي يعمل فيها، ربما مناديا، وربما حارسا أو مطوَّفا، أو حارسا أو حاجبا أو جنديا أو سمسارا، ولكنه بالتأكيد لا يعمل أميرا، فالأمراء لا يتنازلون عن ألقابهم، الأمراء يبحثون دائما عن الأتباع والخدم، وفي الخليج أمراء عاطلون كثيرون، يبحثون عن تسلية وقضاء وقت، يفكرون في النساء بطرائق أصبحنا نجيدها ونقوم بها نيابة عنهم ومن أجلهم، ونيابة عنا ومن أجلنا، لقد أوحي الأمراء والشيوخ ?اسألوا الشيخ عياش- إلي مثقفي حداثة ما بعد الخليج وما بعد أمريكا بابتكار اتفاقات سرية غير منطوقة وغير مكتوبة، منها علي سبيل المثال اتفاق خاص بكتابات المرأة ينص علي أن الرجال من رجال تنويرنا سيحاربون بكل فصاحاتهم وأقوالهم المأثورة دفاعا عما تكتبه النساء من نسائنا الثوريات، شرط أن تكتب الواحدة منهن عن جسدها في عزلته وفي اتحاده، في انطفائه وفي انفجاره، ولأن أرضنا السوداء صارت فجأة لماعة ومائلة منزلقة بفعل الجوائز والكتب الأكثر مبيعا ودور النشر الصغيرة، فقد انزلقت روايات المرأة من الجسد إلي ابتذال الجسد، وأصبحنا جميعا، وبلا وعي منا، ننتظر إذا قرأنا رواية امرأة ، ننتظر تلك اللحظات التي يظهر فيها الجسد لا علي حقيقته بل علي ابتذاله، وإذا لم يحدث خابت آمالنا، هكذا أصبحنا خليجيين، وهكذا توارت أسماء كانت تكتب الجسد وجودا وضرورة، وحلت محلها أسماء تكتب الجسد فضيحة وابتذالا، ما الذي فعله الخليج بنا.