قد يظن البعض أنني أعني مباراة كرة قدم حقيقية في بطولة مثل بطولة الأمم الإفريقية وبين فريقين كبيرين ولكنها بدون حكام!! طبعا هذا غير وارد علي الإطلاق لأن المباريات - حتي المحلية - لابد أن يكون لها حكام.. أما ما أعنيه فهو مباراة صغيرة في أحد برامج الأطفال علي قناة فضائية أعجبتني فكرتها البسيطة جدا والعميقة جدا جدا في الوقت نفسه.. قام البرنامج بجمع الأطفال المشتركين في فريقين ليلعبوا كرة قدم من نوع جديد.. فلا يوجد في المباراة حكام، كما لا توجد قواعد علي الإطلاق للعب.. هم قالوا إن اسم المباراة: مباراة كرة قدم، ولكنهم تركوا الأولاد يلعبون في فريقين دون قواعد ولا حكام.. كانت المباراة عبثية، كل واحد علي هواه فهذا يركل لاعب الفريق الآخر بقدمه، وذاك يضربه بيده من ناحية.. وعلي ناحية أخري يمسك الطفل الآخر الكرة بيده ليدخلها في المرمي، فيصيح حارس المرمي: هذا خطأ، لقد أمسك الكرة بيده.. هذه كرة قدم وليس يد.. ولكن اللعبة هنا كانت دون قواعد ولا قوانين تحكم التسديد واللعب.. أو تعاقب المخطئ.. ولا يوجد حكام ينظرون ما يجري علي أرض الملعب ويراقبون ويطلقون أحكامهم ضد المخطئ عن دون قصد ولا حتي المخطئ عمدا!! مباراة عجيبة انتهت نهاية مضحكة مبكية.. وخرج منها الأطفال جميعا بخيبة أمل كبيرة عكس البهجة التي ترتسم عادة علي وجه الأطفال أثناء وبعد اللعب الجماعي!! ثم اجتمع أطفال الفريقين بمنظمي البرنامج لمناقشة لعبة (مباراة دون حكام).. وكانت الأسئلة الموجهة للأطفال تدور حول شعورهم أثناء اللعب وبعده.. ومدي سعادتهم بعدم وجود مراقب يضايقهم ويوقف اللعب بصفارته بين الحين والآخر فيقطع استمتاعهم باللعب - لاحظ أنه لم تكن هناك صفارة واحدة طوال المباراة لأنه لم يكن هناك حكام - وطبعا كانت الإجابات متوقعة.. فقد كره الأطفال اللعب دون قوانين، ولم يستمتعوا إطلاقا بعبثية المباراة وخلوها من حكام يضبطون إيقاع اللعب وينظمونه.. وكان من السهل بدلا من كل تلك المشقة أن يجتمع علماء التربية والقانون بهؤلاء الأطفال ويوضحون لهم أهمية القانون والحكومات والشرطة والقضاء للدول وللمجتمعات دون الحاجة إلي إقامة مباراة واشتراك الأولاد فيها وتوفير تعبهم ومجهودهم.. ولكن مرورهم بالتجربة في صورة مادية مصغرة عبارة عن رياضة بسيطة دون رابط ولا ضابط أفضل ألف مرة من محاضرات عن القانون والنظام وأهميتهما.. لأن شعور الأطفال بإحباط غياب القانون، وبالكوارث التي قد تحدث في غياب الحكام لا يمكن أن يشرحها عالم ولا يفسرها معلم بطريقة أكثر عملية من ذلك.. لا توجد حاجة عند الكبار لتعلم مثل هذه الأفكار.. فهم حتما يعلمون أن غياب القانون يمثل كارثة.. وأن عدم وجود سلطات أمن قوية يسبب أزمات مجتمعية.. وإذا كان الكبار لا يلعبون أبدا كرة القدم من دون حكام وقواعد، فلن يسمحوا أن يكون واقعهم اقل انضباطا من لعبهم..