في الفترة الأخيرة شاع نموذج صحافة المناكفات، التي لا تقوم علي مناقشة قضايا تهم الرأي العام، ولكن علي الزج بقضايا وهمية، تسودها أجواء من الخصام، والمناكفة، والمساجلات التي لا معني لها. خذ مثالاً علي ذلك بقضية الشأن الديني، ولا أعني بذلك المناكفات الإعلامية بين مسلمين ومسيحيين فقط، ولكن امتد الأمر ليشمل مناكفات إعلامية بين منتمين إلي نفس الدين، لكنهم مختلفون في التوجه والرأي، وربما المصالح. حين اشتعل الحديث عن "السنة والشيعة" علي خلفية تصريحات الشيخ يوسف القرضاوي، حدثت مناكفات إعلامية بين فريقين، كلاهما محسوب في النهاية علي الإسلام السياسي، استخدمت فيها لغة قاسية، سجالية، عنيفة، ولم يكن الموضوع يستحق سوي نقاش هادئ، وجدل فكري عقلاني. مثال آخر علي المناكفة الدينية، ما يجري من حوارات لا تخلو من اتهامات بالكفر والزندقة بين أنصار السنة والمتصوفين، حالة من العنف لا معني لها. ويتكرر نفس المشهد علي الجانب المسيحي، إذ قد تصدر وجهة نظر من أصحاب مذهب تسبب غضبا لأصحاب المذاهب الأخري، وهو ما يؤدي-عادة- إلي فتح ملف صحفي يستخدم فيه التراشق باللفظ، والتهديد بالقول، وهو أمر لا يخدم أي حوار حقيقي. ومنذ أسابيع عندما نشرت صحيفة يومية خاصة متابعات عن الشأن الكنسي استعانت فيها بمصور أفراح ليدلي برأيه في الموضوع في صدر صفحتها الأولي، ربما لأنها لم تجد من يريد أن يكون طرفا في مساجلات. وصحافة المناكفات ليست مقصورة علي المساجلات الدينية، لكنها باتت ظاهرة تلقي بثقلها علي الإعلام في جميع المجالات، سواء في الفن، والرياضة، وبالطبع في السياسة. مناكفات تحركها مشاعر الانتقام، والغضب، والمرارة الشخصية دون أن تسهم في رفع وعي القارئ، أو تطور ثقافته. تكرر نفس الأمر مع اختيار فيلم "المسافر" في مهرجان فينيسيا، حيث ثارت سلسلة متلاحقة من المناكفات التي تحركها في القليل منها اعتبارات فنية، وفي كثير منها اعتبارات مصلحية. الظاهر أن إخفاق مؤسسات المجتمع عن إدارة حوار ديمقراطي داخلها تسبب في أن تصبح مشاكلها مثار حديث في الصحف، وسببا مستمرا في المناكفات اليومية. في الخلاف بين نادي القضاة ووزارة العدل تحول الموضوع إلي مجال للمناكفات علي صفحات الصحف، رغم أنه في الجزء الأكبر منه مهني، يخص جماعة مهنية محددة. في الخلافات التي تشتعل داخل نقابتي الصحفيين والمحامين تصبح الصحف مجالا لتبادل الاتهامات، والانخراط في المناكفات والمساجلات المعتادة. في الخلافات التي تنشب داخل الأحزاب السياسية نتيجة غياب قدرتها علي إدارة حوار داخلي يستوعب التنوع في الآراء، ووجهات النظر، تحولت الصحف إلي ساحة لتبادل السباب، والاتهامات. مؤسسات المجتمع فقيرة علي مستوي ممارسة الديمقراطية الداخلية، كل ذلك دفع بأعضائها إلي صفحات الصحف لعرض مشاكلهم الخاصة، والمهنية، والتي لا تخص أحدًا سواهم. بالطبع هذه ليست دعوة إلي التعتيم، وإلقاء بردة من الصمت علي السلبيات الموجودة في المجتمع. ولكن ليس من المطلوب أن تنصرف الصحف عن قضايا المواطن الحقيقية، من تلوث وفقر ومرض، لتتحول إلي ساحة للمساجلات والمناكفات بين المختلفين في كل مؤسسة وكيان، حكومي أو غير حكومي. هذه الحالة تتسبب في أمراض اجتماعية ونفسية خطيرة أبرزها اهتزاز ثقة المواطن في مؤسسات المجتمع، وإشاعة مناخ من الإحباط يطول كل شيء، وتنامي الإحساس بأن لا أمل في المجتمع طالما أن الصورة قاتمة إلي هذا الحد، ولغة الحوار هابطة إلي هذا المستوي، والديمقراطية لا تعني سوي وصلات من المناكفات لا أكثر ولا أقل. المطلوب من المؤسسات أن تدير حوارا ديمقراطيا داخلها، وأن تبتعد أن إلقاء تبعات فشلها علي الصحف، وفي كل الأحوال بعد أن تهدأ القصص، وتنفض المناكفات، نسمع العبارة المتكررة "الصحافة هي المسئولة عن الإثارة".