د. محمد سليم شوشة يمثل الأديب العالمى نجيب محفوظ أحد أبرز مظاهر القوى الناعمة لمصر، وهو من تلك القوى الناعمة التى تمارس أدوارها المهمة تنويريًا وجماليًا فى الداخل والخارج منذ زمن طويل مضى ولزمن طويل قادم فيما يتوقع كثير من المفكرين، حيث لا يقتصر دور محفوظ على الداخل فقط، لكنه كذلك داعم لمصر وصانع لقوتها فى الخارج كذلك ويمثل نفوذًا استثنائيًا لنا على المستويين العربى والدولي. ولا يمكن حصر فوائد تجدد حضور محفوظ بالنسبة للثقافة المصرية فى جانب واحد؛ ذلك لأن حضوره المتجدد يدعمنا ويسهم فى نهضتنا وفى مسيرة الإصلاح التى نعيشها وننطلق فيها منذ سنوات ونحن الآن فى ذروتها. إننا يمكن أن نكتشف مع قليل من التأمل أنه ليس كنجيب محفوظ أحد يمكن أن يدعم الجمهورية الجديدة ويدعم معركة الوعى والتنوير ويجابه الرجعية والتيارات الظلامية فضلًا عن أدواره الأخرى التى لا تقل أهمية مثل تعزيز القيم الجمالية فى حياتنا ومحبة الحياة والإقبال عليها وأن يجعل الإنسان المصرى محفوفًا بالأمل والمقاومة والرغبة فى الحياة وتعزيز قيم الانتماء والهوية والإيمان بعمق التاريخ المصرى بكل طبقاته وتراكماته، كل هذا يمكن لمصر الآن أن تفيده من تجدد حضور هذا الأديب العالمى العملاق، وتجدد حضور إبداعه وتجربته الاستثنائية. كل هذا يبدو واضحًا تمامًا أن الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية تدركه جيدًا وتستوعب مناطق القوة الثقافية لدينا وتشتغل عليها، ولهذا سارعت إلى الحصول على حقوق الملكية الفكرية للفيلم الوثائقى البريطانى (عالم نجيب محفوظ) وترميمه وإتاحته للمشاهدين وهو الفيلم الذى مر عليه أكثر من ثلاثين عامًا وأصبح بذاته قيمة معرفية وثقافية نادرة حتى على مستوى النقاد والمثقفين الآخرين الذين تحدثوا فيه وتناولوا تجربة نجيب محفوظ بتوضيحات وإضاءات مهمة، فما بالنا بالأديب العالمى نفسه الذى يتحدث فيه عن أشياء كثيرة ونقاط عديدة فى غاية الأهمية ويتناول فيه تجربته بالرأى والتحليل والتأمل من أكثر من جانب، فضلًا عن حديثه عن علاقته بالمكان وحديثه عن مرحلة الطفولة وذكرياته مع فترات الاحتلال الإنجليزى ونضال المصريين وثوراتهم وتناوله للكثير من التفاصيل حول الكتابة الأدبية ومذاهبه وتحولاته فيها وأسئلته حولها وغيرها الكثير من النقاط بالغة الأهمية والقيمة. المتحدة للخدمات الإعلامية تمثل نموذجًا للوعى بقيمة تراثنا وقيمة قوتنا الناعمة وتؤكد أنها تنتج خطابًا إعلاميًا عميقًا ومهمًا يمثل أحد المرتكزات الأساسية للجمهورية الجديدة، والأهم أنها تضرب المثل والنموذج فى التعامل الاحترافى المنضبط والعالمى والإنسانى وتتجاوز بشكل كامل كثيرًا من أشكال الخطأ والفساد والتجاوز التى كانت فى الماضي، فهى لم تعمد إلى أى شىء من (الفهلوة) أو التسرع، وحصلت على الحقوق بشكل قانونى عبر إجراءات كثيرة وفيها دأب وبحث حتى لا يكون هناك أى ثغرات أو تجنِ على حقوق المنتج، أو على الأقل لتضرب المثل فى منح كل ذى حق حقه مهما كان بعيدًا أو غير منتبه، وهو مثل إنسانى رائع يؤكد أن كل من يفعل شيئًا مهمًا ويقدم عملًا يجب أن يأخذ حقه ويحصل على التقدير وأنه لا مجال لأى شكل من تجاوز الحقوق أو إهمالها، وأن هذا هو الأساس الذى يجب أن يتم التعامل فى إطاره مع الإبداع بصورة كافة. هنا نحن أمام تجربة إعلامية عظيمة ومهمة وتعامل احترافى يعيدنا إلى أمجاد الإعلام المصرى فى انطلاقته الأولى فى عصور الازدهار، بل ربما يزيد علي هذا بأن أضيف البعد العالمى والعابر للحدود الثقافية المحلية، وأتصور أن إطالتى الوقوف مع مسألة حقوق الملكية الفكرية ليست من قبيل التزيد فى الحديث، ولكنه بالفعل درس مهم ومؤشر على تحول كبير فى منطق الإعلام المصرى الذى تقوده الشركة المتحدة، إذن لم يكن الأمر محصورًا فى وعيهم فقط بقيمة الفيلم الوثائقى النادر وثراء محتواه وضرورة إتاحته للجماهير، بل فى الممارسة المحترفة المتمثلة فى التواصل من أجل الحقوق ثم فى الأمور الفنية المرتبطة بالترميم وغيره، وكذلك فى خدمة ما بعد إذاعة الفيلم تزامنا مع الذكرى 110 على ميلاد أديبنا العالمى الاستثنائى، متمثلة فى اللقاء التليفزيونى المهم مع بعض الكتاب والمثقفين أو القائمين على الفيلم من وحدة الأفلام الوثائقية فى الشركة. هذا الفيلم هو واحد من أكثر الأفلام الوثائقية التى أعدت عن حياة نجيب محفوظ وتجربته من حيث الحضور الكبير للأديب العالمى بشخصه، واحد من أكثر الأفلام الوثائقية تجليًا لفكر نجيب محفوظ الإنسان وصورته وشهاداته وليس نجيب محفوظ الروائي، وهناك فارق كبير بين نجيب محفوظ الذى يكون تجليه ضمنيًا وخفيًا وراء خطاب إبداعى ونجيب محفوظ الذى يتجلى بصورته الحقيقية المباشرة والكاملة فيحدثنا عن ملابسات هذا الإبداع ويحدثنا عن حياته والعوامل المؤثرة فى تكوينه والمحركة للإبداع لديه والمحددة للمراحل المفصلية فى تجربته الثرية والممتدة والحافلة بالألغاز وتدور حولها أسئلة كثيرة ربما نرى أنه قد أجاب عن كثير منها فى هذا الفيلم. وبافتراض أن هذا الفيلم الوثائقى الذى يتحدث فيه محفوظ بأريحية شديدة مجرد إضافة إلى ما لدينا من تسجيلات للأديب العالمى وحواراته أو لقاءاته التليفزيونية فهو إضافة كبيرة ومهمة، لأننا بحاجة إلى كل كلمة كان يقولها عن إبداعه وكل تصريح أو إشارة أو لمحة يفيض بها حول تجربته وإبداعه وحياته الشخصية أو علاقته بالمكان وعلاقته بالبشر الذين كانوا فى حى الجمالية وأحياء القاهرة الفاطمية التى استلهم منها محفوظ غالبية أعماله، وكذلك حديثه عن القاهرة بصفة عامة وتحولاتها والتغيرات الكثيرة التى طالت جوانبها من النواحى العمرانية وحديثه عن البشر وعاداتهم، وكذلك حديثه عن السياسة فى الماضى وحتى لحظة تسجيل الفيلم. يتحدث نجيب محفوظ فى هذا الفيلم بأريحية شديدة عن طفولته وعن مراحل تعليمه فى الكتاب وعن الجنود الإنجليز الذين كانوا يعسكرون فى ساحة بيت القاضى أو ميدانه القديم ويتحدث عن المقهى وعن الحكايات الشعبية التى كانت تغنى فيه أو يلقيها شاعر الربابة وغيرها الكثير من الحفريات والمكونات التى عملت على تشكيله، يتحدث عن الفتوات ودورهم فى النضال ضد الاحتلال الإنجليزى فى ثورة 19 وكيف تحولوا إلى ثوار ضد هذا المحتل وضربوا نموذجًا فى التضحية والفداء، وتحدث عن تحديات الكتابة لديه وعن فترات التوقف وكيف عاد مرة أخرى فى العام 1959م وكذلك حديثه عن جائزة نوبل وأثر فوزه بها الذى كان فى صالح الأدب العربى كله، وتحدث عن الرجعية الدينية والجماعات الظلامية ومن طريف هذا الحديث ولمحاته العجيبة التى يجب أن يتوقف عندها كل مثقف عربى ومصرى هو وصفته العلاجية لهذا المرض المتمثل فى هذه الجماعات وأن هذه الوصفة العلاجية التى جاءت فى لحظة تأملية فى تسجيل هذا الفيلم هى بالفعل التى حدثت فى تجربة مصر بعد 2011 وكيف أن فضح الإخوان كان من خلال إتاحتهم وإبرازهم للناس وجعلهم لا يتخفون، وأن فترة حكمهم كانت هى الوصفة العلاجية التى قال بها نجيب محفوظ فى هذا الفيلم فى 1989م، فنرى كيف يمكن للأديب العظيم من خامة نجيب محفوظ يصل لهذا العمق فى استيعاب أمراض المجتمع وكيف يمكنه أن يضع لها وصفة علاجية. إن هذا الرأى الذى أدلى به محفوظ فى الفيلم بشكل عابر وسريع ليؤكد أن الأدباء الكبار هم القادة الفكريون الحقيقيون للمجتمعات وأن الجهات التنفيذية يجب أن تبحث فى آرائهم وتستضيء بها وتأخذها دائمًا بمأخذ الجد والاهتمام الكبير. فى هذا الفيلم الوثائقى الذى أتاحته dmc عبر شاشاتها ومنصاتها كافة نجد إضاءات حول القاهرة وأماكنها الخاصة التى التحم بها نجيب محفوظ وقرأها ووظفها إبداعيًا وجماليًا على نحو خاص به. لقد أشار نجيب محفوظ بيده نحو بعض الأماكن التى كان يعسكر فيها الإنجليز وهو طفل، وأشار ناحية بيت البنان وبيت الحلبى وشخصيات أخرى أخذ عنها شخصيات لأعماله، وأماكن روايته زقاق المدق مثل بيت حميدة والناصية التى كان يقف عندها عم كامل بائع البسبوسة فى روايته، ويتحدث كثير من أهل المكان عن بعض هذه الأماكن وبعض الشخصيات الحقيقية والحوادث الواقعية ويتحدثون عن تاريخ المكان وطقوسه وعاداته والحرف التى فيه. يرى المشاهدون لهذا الفيلم المهم نجيب محفوظ وهو يتجول فى منطقته وبين الأماكن التى تشربها وحفظها وكل مكان منها له ارتباط إبداعى معين معه، ويسلم على أهلها ويقول إنهم فى الغالب لا يشعرون أنهم فى أغنى مكان فى مصر، وهذا هو الطريف والجميل أن نجيب محفوظ بعد هذه الرحلة الإبداعية الطويلة مازال يرى فى هذه المنطقة الأغنى فى مصر، ويقصد الأغنى إنسانيا بالتأكيد، والأغنى بعمقها التاريخى والحضارى. فى الفيلم إضاءات نقدية مهمة حول تجربة نجيب محفوظ من نقاد كبار هم بذاتهم أعلام رحل بعضهم وبقى بعضهم – أطال الله فى أعمارهم- وهم الدكتور عبد المحسن طه بدر والدكتورة رضوى عاشور والدكتور محمد عنانى والدكتورة سيزا قاسم، والحقيقة أنهم يبدون فى حالة من التوهج النقدى الكبير النابع من انعكاس اللحظة التاريخية عليهم متمثلة فى الأثر النفسى لفوز أديبنا بجائزة نوبل، وطبعًا لكونهم فى أوج مجدهم النقدى وذروة تجربتهم ووعيهم بعوالم نجيب محفوظ فقدموا شهادات وإضاءات مهمة، وكذلك ما طرح الأديب الكبير الروائى جمال الغيطانى وهو أقرب الأدباء لنجيب محفوظ وابن المنطقة ذاتها كذلك ويمثل امتدادا له فى بعض الجوانب وهو ما يقدم فى المجمل صورة إبداعية متصلة وثرية للرواية المصرية بأجيالها المختلفة، ومن طريف لمحات كلام الأديب العالمى فى هذا الفيلم إشارته إلى أدباء آخرين تعاملوا مع الحارة ومع هذه المنطقة بأساليب مختلفة فقد تكلم إشارة إلى اختلاف تجربتى جمال الغيطانى وإسماعيل ولى الدين مع الحارة وموقعهما من مشروعه وطريقته. فهذا الفيلم مهم جدا بالنسبة للجمهور العام من المصريين المهتمين بالأدب المصرى والمحبين لنجيب محفوظ والغارقين فى أعماله وعالم الفتوات ويعرفونه جيدًا من الأفلام والمسلسلات التى أخذت عن أعماله، كما هو مهم بالقدر ذاته للمبدعين ومهم للنقاد والباحثين، والفيلم وتجربة الشركة المتحدة للإعلام يفتح باب الأمل فى الحصول على كل ما يخص الأديب العالمى من أفلام وثائقية أخرى فى كثير من دول العالم الأخرى التى اهتمت به صورت له أفلام أو لقاءات وحوارات فهذا حق كل مصرى مشغول بأديبنا العالمى ويريد أن يعرف كل شىء. 000_ARP1657746 522302Image1