مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف يقول سبحانه: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن»، لقد جعل الله سبحانه من وسائل الدعوة إليه: الموعظة الحسنة.
ويقول تعالى عن القرآن الكريم: «ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين».
ويقول تعالى: «يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور».
ويقول تعالى: «واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكمبه».
فالقرآن الكريم موعظة من الله لعباده، وهو سبحانه يعظ عباده بالقرآن الكريم.
ولقد حث الله سبحانه على الوعظ، بل حث على الوعظ حتى فى الحالات التى لا أمل فيها، وجعل الوعظ فى هذه الحالات معذرة إليه سبحانه، وإنه يقول: «لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون».
ولقد وعظ القرآن بالقصص، وتضمن القصص القرآنى الكثير من المواعظ، وبين الكوارث التى حاقت بالأمم التى لم تستجب للموعظة فى تصحيح العقيدة، أو التى لم تستجب للموعظة فى التزام مكارم الأخلاق:
- لقد أغرق الله قوم نوح لشركهم.
- ودمر قوم لوط لشذوذهم.
وخسف بقارون لرجسه.
وأباد قوم شعيب؛ لأنهم طففوا الكيل والميزان وبخسوا الناس حقوقهم.
ويقول سبحانه عن القصص القرآنى: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن».
وأحسن القصص هو القصص الملىء بالحكمة والعظة والعبر.
ولكن القرآن وعظ - أيضًا - بالأسلوب المباشر، ومواعظه فى هذا المجال كثيرة مستفيضة: إن القرآن موعظة..
والوعظ قسم من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو جزء من الجهاد فى سبيل الله.
ومن أجل ذلك اهتم الصوفية به، فكانوا وعاظا بألسنتهم، وكانوا وعاظا بسمتهم، وكانوا وعاظا بسلوكهم، وكانت حياتهم وعظًا وهداية للآخرين.
ولقد استفاض ذو النون فيما يتعلق بالوعظ، وكانت له مواعظ بلغت فى السمو حدًا بعيدًا، وفيما يأتى بعض مواعظه:
«من نظر فى عيوب الناس عمى عن عيوب نفسه، ومن عنى بالفردوس والنار شغل عن القيل والقال، ومن هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر زيد له».
وقال: «حقيقة السخاء ألا تلوم البخيل فى منعه إيَّاك يوما، لأنك إن لمته واشتغلت به. فذلك لوقوع ما منعك فى قلبك، ولو هان ذلك عليك لم تشتغل بلومه».. ثم أنشأ يقول:
كريم كصفو الماء ليس بباخل
بشىء ولا مهد ملاما لباخل
وأوصى رجلا فقال له: «لا تكن خصما لنفسك على ربك تستزيد فى رزقك وجاهك، بل كن خصمًا لربك على نفسك؛ فإنه لا يجتمع معها عليك.. ولا تلقين أحدًا بعين الازدراء والتصغير - ولو مشركًا - خوفًا من عاقبتيكما؛ فلعلك تسلب المعرفة ويرزقها».
وقال: «من تقرب إلى الله بما فيه تلف نفسه؛ حفظها عليه». وقال: «الصدق سيف الله، ما وضع على شىء إلا قطعه».
وقال: «لا تشغلنك عيوب الناس عن عيوب نفسك فلست عليهم برقيب».
وقال: «الحسد داء لا يبرأ، وحسب الحسود من الشر ما يلقاه».
وقال: «من قنع استراح من أهل زمانه، واستطال على أقرانه».
وقال: «يأتى زمان تكون الدولة فيه لأهل الدنيا على أهل الآخرة».
وقال: «العاقل يعترف بذنبه، ويجود بما لديه، ويزهد فيما عنده، ويكف أذاه، ويتحمل أذى غيره».
وقال: «الكيِّس من بادر بعمله، وسوَّف بأمله، واستعد لأجله».
وقال: «كيف افرح بعملى، وذنوبى مزدحمة؟!.. أم كيف أفرح بعملى، وعاقبتى مبهمة؟!».
وقال: «العزُّ الذى لا ذُلَّ فيه: سكوتك عن السفيه.. عطب السفيه بيده وفيه».
وقال فى ختام كلامه يومًا: «ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهب عقولهم، والعرض على الله أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم، والملائكة وقوف بين يدى الجبار ينتظرون أمره فى الأخيار والأشرار؟!»..
ثم قال: «مثلوا هذا فى نفوسهم، وجعلوه نصب أعينهم».
وقال: «قلوب أهل الهوى سجون البلاء.. فإذا أراد الله أن يعذب البلاء حبسه فى قلوب أهل الهوى، فيصيح إلى الله بالاستغاثة والخروج من قلوب أهل الهوى».
وقال: «طوبى لمن تطهر ولزم الباب.. طوبى لمن تضمر للسباق.. طوبى لمن أطاع الله أيام حياته». وقال: «حق الجليس أن تسره، فإن لم تسره فلا تسؤه، لم يكسب محبة الناس فى هذا الزمان إلا رجل خفف المئونة عليهم، وأحسن القول فيهم وأطاب العشرة معهم».
وقال له رجل: أوصنى..
فقال: «بم أوصيك؟.. إن كنت ممن قد أيد منه فى علم الغيب بصدقالتوحيد، فقد سبق لك - من قبل أن تُخلق إلى يومنا هذا - دعاء النبيين، والمرسلين والصديقين، وذلك خير لك من وصيتى لك، وإن يكن غير ذلك فلن ينفعك النداء».
وعن أحمد بن الحسن الزاهد، قال:
كان مكتوبًا على عكاز ذى النون:
«لا يومك ينساك.. ولا رزقك يعدوك.. ومن يرغب إلى الناس يكن للناس كالمملوك».
وقال ذو النون: «إذا اطلع الخبير على الضمير، فلم يجد فى الضمير غير الخبير؛ جعل فيه سراجًا منيرًا».
وقال: «من المحال أن يحسن الظن ولا يحسن منه المن».
وقال: «كيف أفرح بعملى، وذنوبى مزدحمة؟! أم كيف أفرح بعملى، وعاقبتى مبهمة؟!». وقال: «ما أخاف عليكم منع الإجابة، إنما أخاف عليكم منع الدعاء».
وسأله رجل فقال:
- رحمك الله.. ما الذى أنصب العباد وأضناهم؟
فقال: «ذكر المقام، وقلة الزاد، وخوف الحساب».
وقال أبو عصمة: كنت عند ذى النون، وبين يديه فتى حسن يُملى عليه شيئًا، قال: فمرت امرأة ذات جمالوخلق، قال: فجعل الفتى يسارق النظر إليها.. قال: ففطن ذو النون فلوى عنق الفتى، وأنشأ يقول: عن المكروه قبل فوت الإمكان، وسارعوا فى الإحسان تعويضا عن الإساءة، ولاقوا النعم بالشكر؛ استجلابا لمزيده، وجعلوه نصب أعينهم عند خواطر الهم وحركات الجوارح، من زينة الدنيا وغرورها، فزهدوا فيها عيانا، وأكلوا منها قصدا، وقدموا فضلا وأحرزوا ذخرا، وتزودوا منها بالتقوى، وشمروا فى طلب النعيم بالسير الحثيث، والأعمال الزكية، وهم يظنون.. بل لا يشكون أنهم مقصرون، وذلك أنهم غفلوا فعرفوا، ثم أتقوا، وتفكروا فاعتبروا؛ حتى أبصروا، فأمسكوا ألسنتهم عن الكلام من غير عى خوفا من التزين فيسقطوا من عين الله، فأمسكوا مع عقول صحيحة، ويقين ثابت، وقلوب شاكرة، وألسن ذاكرة، وأبدان صابرة، وجوارح مطيعة.
أهل صدق ونصح، وسلامة وصبر، وتوكل ورضا وإيمان.
عقلوا عن الله أمره، فشغلوا الجوارح فيما أمروا به من طاعةوذكر وحياء وقطعوا الدنيا بالصبر على لزوح الحق، وهجروا الهوى بدلالات العقول، وتمسكوا بحكم التنزيل وشرائع السنن، ولهم فى كل إشارة منها دمعة ولذة، وفكرة وعبرة، ولهم مقام على المزيد للزيادة، فرحمة الله علينا وعليهم وعلى جميع المؤمنين والصالحين».
قال: وسمعت ذا النون يقول:
«إياك أن تكون فى المعرفة مدعيا، وتكون بالزهد محترفا، وتكون بالعبادة متعلقا».
فقيل له: يرحمك الله، فسر لنا ذلك.
فقال:
«أما علمت أنك إذا أشرت فى المعرفة إلى نفسك بأشياء وأنت معرى من حقائقها كنت مدعياً، وإذا كنت فى الزهد موصوفاً بحالة وبك دون الأحوال كنت محترفا. وإذا علقت بالعبادة قلبك وظننت أنك تنجو من الله بالعبادة، لا بالله، كنت بالعبادة متعلقاً لا بوليها والمنان عليك». وعن الشمشاطى، قال: سمعت ذا النون يقول:
«أوحى الله تعالى إلى موسى - عليه السلام:
يا موسى، كن كالطير الوحدانى يأكل من رءوس الأشجار، ويشرب من الماء القراح، إذا جنه الليل أوى إلى كهف من الكهوف، استئناساً بى، واستيحاشاً ممن عصانى.
يا موسى، لأقطعن أمل كل مؤمل يؤمل فى غيرى، ولأقصمن ظهر من يستند إلى سواى، ولأطيلن وحشة من استأنس بغيرى، ولأعرضن عمن أحب حبيبا سواى.
يا موسى، إن لى عبادا إن ناجونى أصغيت إليهم، وإن نادونى أقبلت عليهم، وإن أقبلوا على أدنيتهم، وإن دنوا منى قربتهم، وإن تقربوا منى اكتنفتهم، وإن والونى واليتم، وإن صافونى صافيتهم، وإن عملوا لى جازيتهم.
هم فى حماى، وبى يفتخرون، وأنا مدبر أمورهم، وأنا سائس قلوبهم، وأنا متول أحوالهم، لم أجعل فى قلوبهم راحة فى شىء إلا فى ذكرى، فذكرى لأسقامهم شفاء، وعلى قلوبهم ضياء، لا يستأنسون إلا بى، ولا يحطون رحال قلوبهم إلا عندى ولا يستقر قرارهم فى الإيواء إلا إلى». ثم قال ذو النون:
«هم - يا أخى - قوم قد ذوب الحزن أكبادهم، وانحل الخوف أجسامهم. وغير السهر ألوانهم، وأقلق خوف البعث قلوبهم... قد سكنت أسرارهم إليه، وتذللت قلوبهم عليه، فنفوسهم عن الطاعة لا تسلوا، وقلوبهم عن ذكره لا تخلو، وأسرارهم فى الملكوت تعلو.
الخشوع يخشع لهم إذا سكتوا، والدموع تخبر عن خفى حرقتهم إذا كمدوا، قد نسوا مرح الشهوات بحلاوة المناجاة، فليس للغفلة عليهم مدخل، ولا للهو فيهم مطمع، قد حجب التوفيق بينهم وبين الآفات، وحالت العصمة بينهم وبين الذات، فيا طوبى للعارفين، ما أغنى عيشهم، وما ألذ شربهم، وما أجل حبيبهم».
وقال ذو النون:
«إن لله خالصة من عباده، ونجباء من خلقه، وصفوة من بريته، صحبوا الدنيا بأبدانهم، وأرواحهم فى الملكوت معلقة.. أولئك نجباء الله من عباده، وأمناء الله فى بلاده، والدعاة إلى معرفته، والوسيلة إلى دينه.
هيهات.. بعدوا وفاتوا، ووارتهم بطون الأرض وفجاجها.. على أنه لا تخلوا الأرض من قائم فيها بحجته على خلقه؛ لئلا تبطل حجج الله».
ثم قال:
«وأين؟!.. أولئك قوم حجبهم الله عن عيون خلقه، وأخفاهم عن آفات الدنيا وفتنها، ألا وهم الذين قطعوا أودية الشكوك باليقين، واستعانوا على أعمال الفرائض بالعلم، وهربوا من وحشة الغفلة، وتسربلوا بالعلم لاتقاء الجهالة، واحتجزوا عن الغفلة بخوف الوعيد، وجدوا فى صدق الأعمال لإدراك الفوت، وخلوا عن مطامع الكذب ومعانقة الهوى، وقطعوا عرى الارتياب بروح اليقين، وجاوزوا ظلم الدجى، ودحضوا حجج المبتدعين باتباع السنن، وبادروا إلى الانتقال عن المكروه قبل فوت الإمكان، وسارعوا فى الإحسان؛ تعويضا عن الإساءة، ولاقوا النعم بالشكر استجلابا لمزيده، وجعلوه نصب أعينهم عند خواطر الهمم وحركات الجوارح من زينة الدنيا وغرورها، فزهدوا فيها عيانا، وأكلوا منها قصدا، وقدموا فضلا وأحرزوا ذخرا، وتزودوا منها بالتقوى، وشمروا فى طلب النعيم بالسير الحثيث، والأعمال الزكية، وهم يظنون.. بل لا يشكونأنهم مقصرون، وذلك أنهم عقلوا فعرفوا، ثم اتقوا وتفكروا، فاعتبروا؛ حتى أبصروا فأمسكوا ألسنتهم عن الكلام من غير عى خوفا من التزين فيسقطوا من عين الله، فأمسكوا مع عقول صحيحة، ويقين ثابت، وقلوب شاكرة، وألسن ذاكرة، وأبدان صابرة، وجوارح مطيعة.
أهل صدق ونصح، وسلامة وصبر، وتوكل ورضا وإيمان.
عقلوا عن الله أمره فشغلوا الجوارح فيما أمروا به من طاعة وذكر وحياء، وقطعوا الدنيا بالصبر على لزوم الحق، وهجروا الهوى بدلالات العقول، وتمسكوا بحكم التنزيل وشرائع السنن، ولهم فى كل إشارة منها دمعة ولذة، وفكرة وعبرة، ولهم مقام على المزيد للزيادة، فرحمة الله علينا وعليهم وعلى جميع المؤمنين والصالحين».
«أهل الذمة يحملون على الحال المحمودة والمباح من الفعل، فما الفرق بين الذمى والحنيفى؟.. الحنيفى أولى بالحلم والصفح والاحتمال».
وعن غيلان المذكر، قال:
«أخبرنى ذو النون أن الناس على ثلاثة مقامات فى الدنيا:
* قوم اشتغلوا بمعادهم عن معاشهم.
* وقوم اشتغلوا بمعاشهم ومعادهم.
* وقوم اشتغلوا بمعاشهم عن معادهم.
* فأما من اشتغل بمعاشه عن معاده فمقامه مقام الهالكين.
* وأما من اشتغل بهما فمقامه مقام المخلصين.
* وأما من اشتغل بمعاده عن معاشه فهو من العارفين».
وعن يوسف بن الحسين، قال: سمعت ذا النون يقول:
«لله عباد تركوا الذنب استحياء من كرمه، بعد أن تركوه خوفا من عقوبته، ولو قال لك: اعمل ما شئت فلست آخذك بذنب، كان ينبغى أن يزيدك كرمه استحياء منه، وتركا لمعصيته، إن كنت حراً كريما عبداً شكورا، فقكيف وقد حذرك؟َ!».
وعن سليم بن موسى، قال: قال ذو النون:
«إن حقوق الله أثقل من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيهال العاد، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين».
وقال ذو النون:
«الدنيا دنية، وحبها خطية، والدنو منها بلية.. الدنيا يكفى صفتها من وصفها، وإنما يعتبر بها من عرفها.. من طلب الدنيا سبقته، ومن هرب منها لحقته، ومن عصى الدنيا أطاعته، ومن أطاعها عصته.. الدنيا فاعلة بك ما فعلت بأبيك، وزائلة عنك كما زالت عن أخيك».
وقال يوسف:
قلت لذى النون فى وقت مفارقتى له:
من أجالس؟
قال:
«عليك بصحبة من تذكرك بالله رؤيته.. وتقع هيبته على باطنك.. ويزيد فى عملك منطقه.. ويزهدك فى الدنيا عمله.. ولا يعصى الله ما دمت فى قربه.. يعظك بلسان فعله.. ولا يعظك بلسان قوله».