بعد تجوال عن الإخلاص الواجب فى سلوكيات المسلم مع ربه بشهر رمضان، مع نزع لفتيل الطقوس الرمضانية من عادات المسلمين لتتحول إلى عبادة لها ملامح عاقلة نتدبر بها كتاب ربنا، مع التأكيد على فرضية تلاوة القرآن على الناس عامة وعلى المسلمين خاصة، وهو ما حوته الحلقات الأولى والثانية من حلقات عباد الرحمن فى رمضان. . نستكمل اليوم أطروحة تحمل إحدى سمات المسلم المستنير الذى يقدر للقرآن قدره، وللعبادة أهميتها، ونساعد بها فى تشييد بناء جديد لتعامل المسلم مع القرآن، فرمضان هو شهر القرآن قبل أن يكون شهر الصوم، والقرآن هو منهاج الهداية وهو كلمات الله التى تسعى بيننا لتقيم الأخلاق وتهذب السلوك وترفع الدرجات، لذلك فهو كتاب هداية يحمل مصداقية صحته بين دفتيه، وهو كتاب يحمل كل صنوف العلوم، فما تكاد تذكر علما أو أدبا أو فضيلة إلا ووجدته يتصدى لها بالشرح والتحليل المستفيض. وسلسلة حلقاتنا التى نقوم بنشرها تسعى لاستجلاء تلك الكنوز للمسلم المهتم بأمر دينه، وصاحب الرشاد فى توجهاته وسلوكياته، فضلا عن قيامه بواجب الشعائر عن علم ويقين، لنبدأ اليوم بحلقة «لماذا نقرأ القرآن». لقد فقدت معان كثيرة فى حياتنا ،ومن ضمن المفقودات ضياع اعتبارات كانت لها شأنها فى الماضى ،ولكن لما تكاثرت الأزمنة جاء الخلف بلا اعتبار لما كان من هيبة للمقدسات فحطّموا الأهداف وتمسّكوا بالوسائل، بل وصار التنافس فى تناغم الظاهر دون موضوعية أو سمو للأهداف، ولقد كان الدّعاة على مرّ عشرات السنين مضت سببا فيما أصبح عليه المسلم من قراءة القرآن دون تدبر بما يمطرون به الناس من مرويات تحض علىالقراءة والقراءة فقط بل واشترطوا للإمامة كثرة حفظ القرآن وحسن الصوت به ولو بغير فقه.
لذلك فإنك إذا نظرت إلى حال الأمّة، تجد أكثر أهل الإسلام فيها لا يميلون إلى قراءة كتاب الله ،وإذا نظرت إلى القرّاء منهم تجد أكثرهم يميل إلى تكرار القراءة وكثرة ختم القرآن ،فمنهم من يختم قراءته مرة فى السنّة ومنهم من يفعلها مرة كل شهر ومنهم من يتمّها كل أسبوع ، ومنهم من يقرأ يوميا» بعد صلاة الصبح فى المسجد ما شاء الله له أن يقرأ منه ...الخ وما ذلك إلا لوجود نزعة حسابية فى عقولهم ملأت عليهم أغلب ملكاتهم تجاه التلاوة فى كتاب الله وهى أنّ الحرف بعشر حسنات . وموضوعى الذى تسطّره سطورى يعنى بهذه الفئة الأخيرة (فئة القرّآء) فإنى وجدتهم يقرأون ويكررون ختام القرآن لما فى ذلك من ثواب جزيل وما شكره الله للذاكرين خاصة وأن القرآن هو أفضل الذكر عند الله، وهؤلاء تجدهم صفوة مسلمى العصر الحاضر، ولكنهم لم يجدوا من يلفت نظرهم أن القراءة وسيلة وليست هدفا، فهى وسيلة للسعى لنيل الهداية عبر آيات الكتاب المبين ،وهى وسيلة كى نسوس الحياة وفق التعليمات والمقتضيات الإسلامية ولا يكون ذلك إلا بالتّدبر الذى يصاحب القراءة التى لم تكن أبدا نوعا من الادّخار الحسابى لعملات لا يمكن أن تكون لها قيمة تذكر إلاّ بالتدبر والتنفيذ كلّ وفق قدرته العقلية والثقافية والتنفيذية.وبنظرة سريعة على الآيات والأحاديث الدّالة والحاثّة على قراءة القرآن نجدها كثيرة ونتداول بعضها فيما يلى:-
أولا:- الأمر بقراءة القرآن من خلال النصوص القرآنية.
( تعاهدوا القرآن فوالذى نفسى بيده لهو أشد تفلتا من الإبل فى عقالها) أخرجه البخاري. ( مثل الذى يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام ،ومثل الذى يقرأه وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران ) أخرجه البخاري.
(اقرءوا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه ) رواه مسلم.
كل ما سبق من بيان يؤكد أهمية تلاوة كتاب الله، ولكن هل المطلوب هو القراءة أو التلاوة وفقط؟ لقد رأيتهم فى المساجد فى حلقات تلاوة القرآن وكل همّهم إخراج اللّسان فى أحرف ( الذال ) أو القلقلة أو الإدغام وغيرها من أحكام التلاوة ، بينما هم ذاهلون عن هدف القراءة وغالبيتهم يكتفون بالقراءة مرات ومرات فقط لا غير.
إن هؤلاء الأخيار وقفوا على أعتاب الخيرية ولم يدخلوها، فهم على أعتاب الرحمة ولم يغمسوا أنفسهم فيها، لأنهم لو علموا أن للأمر بالقراءة هدفا غير ما يفعلونه من قراءة مجرّدة من أنّ ( أ ل م ) كل حرف بعشر حسنات ليس هو الأمر المبتغى وليس هو الهدف النهائى للقراءة لكان لهم شأن آخر، وأعترف تماما بأن الله حثّنا على تلاوة وترتيل القرآن لكن لابدّ للمسلم المستنير الوقوف على الهدف من التلاوة أو الترتيل.
إن الموضوعية الفكرية لابد أن تقوم بعملها فى ميزان فكر المسلم، فإنه يقتضى من كل مسلم حين ينفّذ أىّ شعيرة من شعائر الدين أن يستحضر كل ما ورد فى شأن ما ينفّذه حتى يتم هدف الشارع من التشريع، فهؤلاء القرّاء لم يستحضروا إلا الآيات والأحاديث التى تحثّ على القراءة، وكان من نتيجة ذلك توالد أجيال كالببغاوات يتكلمون بكلمات القرآن دون أن يدركوا مراميها ، لأنهم أصحاب حصيلة ضحلة من التدبّر فى القرآن ومراميه برغم استمرارهم فى قراءته شهورا وسنوات.
بعض الآيات الأخرى الدالة على الهدف من قراءة القرآن
*هدف التّدبر
يقول تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقرءان وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82)
يقول تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقرءان أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)
فالمطلوب هو تدبّر القرآن وهو من أسباب التنزيل وطلب زيادة العلم فيه أمر مفروض على الأمّة
*هدف التّعقل
يقول تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قرءاناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2)
يقول تعالى (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرءاناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3)
فنزوله عربيا كان لزيادة رقعة مساحة إدراك العقل البشرى لما تحمله اللغة العربية من سعة وقدرة على حمل المعانى والمترادفات والأضداد وتنوّع الصور الجمالية فى حروفها وكلماتها ، وهذا دليل أيضا على أن المستقبل حتما سيكون لأهل اللغة العربية وأنها ستزدان فى البلدان كما ازدانت الإنجليزية فى هذه الأيام ،.
بعض الأحاديث التى تحث على طلب العلم من القرآن
(خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ) رواه البخاري.
( إن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع آخرين ).
( ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها ).
فالآيات والأحاديث السابقة والخاصة بتدبّر القرآن وتعلّمه والتّفكر والتّعقل فى آياته مع الآيات والأحاديث التى تحثّ على استدامة القراءة جميعه تكوّن منظومة واحدة تفيد المسلم وتوضح له الهدف من القراءة، فالقارئ للقرءان يقرأه كى ينفّذ آياته وكى تستجيب دوافع الإيمان لديه، ولكى يتعرّف على دروب الهداية الكامنة فى كلماته، وليس يقرأه للقراءة ولكى يختم مرات ومرات دون أن يفقه ما يقرأ، وفى الحديث ( إن أناسا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم......) والله تعالى ذم الذين لا يفقهون حيث قال (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (لأعراف:179)
إن سبب تفصيل الآيات هو أن يفقه الإنسان مراد ربه (وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام:98)
ولكن من كثرة مرور السنوات على من يقرأون كتاب الله على منوال من تصحيح أحكام التّلاوة أو معرفة ما غمض من المعانى اللغوية فقط ، فإنّه قد فقدت أهداف ومعان وقيم كثيرة فى حياة الأمّة الإسلامية.
لقد تصوّر الناس أن القراءة فى القرآن هدف بينما حقيقتها التى بيّنها ربّ العزّة أنها وسيلة للهداية والتّفقّه والتّفكر فى النفس والآفاق والحياة عموما (دين ودنيا).
ولقد قال الله - فى صدد أنّ مدارسة القرآن وسيله وليست غاية- فى سورة التكوير ما يمكن للمسلم أن يتدبّره(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ{27} لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ{28}) ، كما بيّن الله تعالى أنه كى يستفيد المسلم من تلاوته لكتابه الكريم فعليه أولا بالانتماء لكوامن الهداية بكثرة الطاعات حيث يقول تعالى {... إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }الأنبياء90 حينئذ ستكون القراءة زيادة فى هداية العبد الذى يبغى الوصول لحقيقة الخشوع لبناء التقوى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)2 البقرة فتبين الآية تعلّق فعالية القرآن فى الهداية على شرط المحاولات المستمرة من العبد للوصول إلى التقوى (صوم /صدقة/توبة/كثرة ذكر الله/ ....الخ)،فتكون قراءة العبد للقرءان داخل منظومة الطاعة وذكر الله حتى وإن وقع ذلك العبد فى المعاصى، وليس الإيمان بالقرءان فقط ولا الانتساب إليه من مقوّمات الهداية.
إنّ مدارسة القرآن تعنى القراءة والفهم والتّدبر والتّعقل والتّبين لسنن الله فى الأنفس والآفاق ومقوّمات الشهود الحضارى ومعرفة الوصايا والأحكام ،ولقد كان الأوّلون يقرأون القرآن ليرتفعوا إلى مستواه ولكن فى أزمنتنا يقرأون القرآن وينزلونه لمستوياتهم....... فترى من مناهجهم أنّ هذا أفضل من ذاك لأنه ختم القرآن مرتين وليس مرة واحدة ،وهذا يحضر المقرأة ،وذاك لا يحضرها....وهكذا من ترّهات ما ابتدعوه ظنا منهم أنه مقياس الأفضلية.