قبل سقوط الشيوعية كنا فى ساحة جامعة كارل فى العاصمة التشيكوسلوفاكية براج عام 1986 ..نقاش حاد يدور بينى وزميل عراقى كان يدرس الهندسة حول علاقة مصطفى أمين بالمخابرات الأمريكية ..وفى وقت متأخر من ليلة شديدة البرودة فوجئت بطرق زميلى العراقى على باب غرفتى ..لقد عثر على ما يؤيد وجهة نظره كتاب هيكل بين الصحافة والسياسة ،الذى يقدم فيه هيكل من وثائق وتحليل ما يكفى لهزيمتى أمام زميلى العراقى ..وربما صدمتى . هيكل من أبرز الصحفيين فى العالم ..ليس بسبب تمكنه من أدوات المهنة فقط ..بل الأهم هو علاقته بقصر الرئاسة المصرية لسنوات طويلة حتى أنه وجد منصب الوزير أقل كثيرا مما لديه من نفوذ داخل الدولة بل وعلى عبد الناصر شخصيا.. كان الناصح الذى يلهث خلفه الأمريكان وغيرهم لمحاولة التأثير على صانع القرار المصرى ، وبعد رحيل عبد الناصر أدى هيكل نفس الدور لكن بشراسه أكبر فالسادات الذى كان فى مرمى نيران رجال عبد الناصر ، لم يكن مقنعا لهم بما يكفى بالولاء والإخلاص له. وكانت نصحية هيكل ومشاركته فى التخطيط لما سمى بثورة التصحيح مايو 1971..،هى عملية تطهير واسعة داخل النظام من رجال عبد الناصر ، ويبدو حسب مراجع عدة أن الأستاذ كان شريكا فى كل مراحلها .. وظل هيكل لصيق الصلة بالسادات وهو يدعمه فى تصفية رجال عبد الناصر .. حتى أن اختاره لكتابة قرار التوجيه بحرب أكتوبر .. وربما شارك فى كتابة خطاب النصر البليغ فى البرلمان .قبل أن تنتهى علاقة "الوصاية المحدودة" بين السادات وهيكل. فى عام 1977 كان السادات بطل الحدث الأبرز فى العالم ..كان طاقم الطائرة الرئاسية فى المطار يستعد لاستقبال الوفد الذى سيرافق السادات فى هجومه السياسى على إسرائيل ..ولأول مرة لم يكن هيكل بين الركاب المهمين على طائرة رئيس مصر ..غربت شمس الأستاذ . اللواء طيار زكى عكاشة رحمه الله وهو الذى تخصص فى البحث فى مؤلفات هيكل قال لى قبل وفاته بوقت قصير أن لديه بحث شامل عن أكاذيب هيكل التى مررها بين سطور كتبه لإثبات وجهة نظرة .. واللواء عكاشة كان أحد ابناء القوات المسلحة الذين هالهم تقليل هيكل من نصر أكتوبر وراح يقلل من أهمية تضحيات الأبطال من أجل إهالة التراب على أي إنجاز قدمه السادات ..ما قاله لى اللواء الراحل يحتم على ابنه الصديق خالد عكاشه أن ينشر نتاج بحث والده الطيار العظيم والباحث المهم . الحقيقه أنا من المعجبيين بسرد الأستاذ وحكاوى الأستاذ ..وأحيانا قراءة هيكل للمشهد ..وسمعته بأذنى يستأذن الصحفيين فى بيتهم بالإنصراف ..بعد وصفه اللغوى والسياسى البارع لأزمة نظام مبارك أنها سلطة شاخت فى مواقعها . والحقيقة أن مبارك كان حريصا جدا فى عدم الاستماع الى نصائح هيكل ..رغم محاولات الراحل العظيم الدكتور أسامة الباز للتقريب بينهما ..حتى أن الأستاذ إبراهيم سعده نجح فى إقناع مبارك بعودة هيكل للكتابة فى أخبار اليوم وهى العودة التى لم تستمر طويلا . هيكل صحفى بارع فى الكتابة .. مبتكر فى التحليل ولكنه فى أحيان كثيرة يفتقد الى الحيدة .. هو يرى الصواب وحده. وفى زمن حكم الإخوان قفز هيكل الى المشهد بلقاء مطول مع المهزوز محمد مرسى .. قدم له النصائح كعادته .. ورغم العداء التاريخى بين عبد الناصر والإخوان إلا أنه تلقف دعوة مكتب الإرشاد بسعادة بالغة وهرول إلي قصر الرئاسة الذى لم يدخله منذ العام 1974 الا مرتين أو ثلاث . الآن عاد هيكل بتحليلات جذابة ومسلية للغاية ..عن مصر الى أين ؟ ورغم أن الأستاذ قضى شهورا طويلة خارج مصر خلال الفترات الحرجة بعد فض اعتصام جماعات الظلام فى رابعة والنهضة ..الا أنه يقاتل للعودة وسط جوقة الناصريين الذين استغلوا حب السيسى لعبد الناصر للعودة إلى القصر هذه المرة فى ثياب الناصحين ، الحقيقة أن عبد الناصر بعث من قبرة فى السنوات الأخيرة ليس بفضل أي تنظيم ناصرى ..فأغلبهم تنظيمات وأحزاب هشة لا تملك وجودا تنظيما لها فى الشارع ..فارق كبير بين عبد الناصر الذى سكن قلوب أغلبية ساحقة من المصريين وبين تنظيمات هى أول من أرسى قواعد الفساد السياسى فى الحكم . المصريون رفعوا صور عبد الناصر فى ثورتى يناير ويونيو دون توجيه أو شحن الجماهير فى شاحنات على طريقة الإتحاد الإشتراكى ..وهو أسلوب الحزب الوطنى المنحل "سياسيا" ..والغريب أنه ذات أسلوب حشد الإخوان لأتباعهم .. فلا فارق كبير بين آليات عمل الاتحاد الاشتراكى والحزب الوطنى والإخوان ..كلهم فسدة وفاسدون..وتاجروا وتربحوا وباعوا واشتروا ببسطاء الشعب على مدى 60 عاما . الحرب على قلب الرئيس مشتعلة الآن تخوضها تيارات هى الأكثر فسادا على مدى تاريخ مصر الحديث . سيدي الرئيس من أجل بسطاء قلت أنك نصيرهم ..لا تلتفت لفسدة التاريخ وحتى الجغرافيا ..حب عبد الناصر كما شئت وتغزل فى أداء السادات كما ترضى ..ولكن مصر الآن تحتاج الى نخبة جديدة قوامها النزاهة ..ولو أردت فكن نصير البسطاء والفقراء الذين يأملون ويحلمون بالكثير ..لا تكبل خطواتك بالعائدين من فجر التاريخ الحديث ..التاريخ للدروس والعبر..والمساعدة على قراءة المستقبل .