تحرص مصر دائمًا، وفق ثوابتها الراسخة، على تحقيق الأمن والاستقرار وإقرار السلام فى المنطقة، لأن الأمم لا يمكن لها أن تنهض وتنمو وتزدهر فى ظل صراعات متلاحقة وتوترات مستمرة. والأمة المصرية منذ فجر التاريخ وهى تسعى للبناء والتنمية والعمران، فكان المصريون أصحاب أقدم حضارة فى التاريخ. من هذا المنطلق جاءت ثوابت الدولة المصرية السياسية والدبلوماسية المبنية على عدم التدخل فى شئون الغير، ورفض العدوان. لكن يبدو أن قدر الدولة المصرية أن تظل خلال دفاعها عن ثوابتها تلك، أن تحدد مجموعة من الخطوط الحمراء حتى يدرك كل من تسوّل له نفسه المساس بتلك الخطوط أنه سيواجه قوة غاشمة لن تتراجع لحظة واحدة فى الدفاع عن أمن واستقرار المنطقة، مستهدفة الحفاظ على الحقوق ومواجهة العدوان. خلال العقد الأخير ارتفعت درجة حرارة الأزمة فى منطقة البحر الأحمر، بعد أن قامت بعض القوى الدولية بمحاولة فرض مزيد من عمليات العسكرة لتلك المنطقة الحيوية والتى تعبرها 15% من التجارة الدولية. الأمر الذى استوجب ضرورة الوقوف على حجم التطورات فى منطقة البحر الأحمر ومدى تأثير ذلك على الأمن الإقليمى والدولي، فى ظل قيام بعض الدول غير المشاطئة إلى بناء تواجد عسكرى لها هناك، ما يقوض الأمن والسِّلم الدوليين. وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطى خلال حوار تليفزيونى أكد أن أمن البحر الأحمر وحرية الملاحة فيه يمثلان أولوية قصوى للدولة المصرية، مشددًا على أن موقف مصر واضح ولا لبس فيه بشأن أى محاولات لإنشاء قواعد عسكرية أو منافذ بحرية فى البحر الأحمر من قِبل دول غير مشاطئة. قائلاً: "هذا بالنسبة لنا خط أحمر، وقد أبلغنا جميع الأطراف الفاعلة فى المنطقة، بما فى ذلك تركيا، خلال محادثاتها الأخيرة بشأن الأزمة الصومالية الإثيوبية. أن البحر الأحمر جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصري، ولن نقبل تحت أى ظرف من الظروف بوجود تواجد مستدام على شواطئ البحر الأحمر لأى طرف ليس من دوله المشاطئة.. رسالتنا واضحة، ومصالحنا غير قابلة للمساومة." حديث وزير الخارجية جاء بمثابة رسالة واضحة مؤكدًا على ثوابت الدولة المصرية بأنها دولة لا تعتدي، لكنها أيضًا لا يمكن لها أن تفرط فى أمنها القومى أو أى حق من حقوقها المشروعة وفق القانون الدولى فى إطار الحفاظ على استقرار المنطقة. (1) إن ما تشهده منطقة البحر الأحمر من تحركات مستهدفة إنشاء قواعد عسكرية جديدة فى تلك المنطقة من دول غير مشاطئة يعد تهديدًا للسِّلم الإقليمي. خاصة أن مجلس الدول العربية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر، من المتوقع أن ينعقد قريبًا ويبحث خلاله عددًا من آليات العمل لحفظ الأمن والاستقرار فى منطقة البحر الأحمر وخليج عدن. إن محاولات البعض ممن هم خارج الدول المشاطئة بزيادة حجم قواعدهم العسكرية فى منطقة البحر الأحمر أو إنشاء قواعد جديدة يعد بمثابة عمل يستهدف خلق مزيد من التوتر ولن يخلق يومًا أى استقرار فى المنطقة. لقد أدت حالة التوتر فى المنطقة (الحرب الإسرائيلية على غزة وإيران) إلى إحداث توتر فى البحر الأحمر، مما أدى إلى انخفاض عدد السفن العابرة له بسبب ارتفاع تكاليف التأمين على الحمولات بشكل كبير، مما جعل الخطوط الملاحية العالمية تعدل من خطوط سير رحلاتها لنقل البضائع نظرًا لحجم المخاطر، وهو الأمر الذى بات واضحًا عقب استهداف الحوثيين للسفن التجارية الأمريكية والبريطانية وسفن الدول الداعمة لإسرائيل حال مرورها من البحر الأحمر، مما أدى إلى تعرض قناة السويس لانخفاض كبير فى عدد السفن العابرة لها العام الماضى بلغ 65% مما عرضها لخسائر بلغت 8 مليارات دولار. أضرّ التصعيد العسكرى فى البحر الأحمر بالتجارة البحرية والاقتصاد العالمي، وأدت هجمات الحوثيين إلى ارتفاع أقساط التأمين لشركات الشحن، ما أجبرها على زيادة حراس الأمن على متن سفنها. لقد أدت أوقات الشحن الطويلة إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية، حيث امتدت الرحلة بين آسيا وأوروبا لمدة تتراوح بين عشرة إلى أربعة عشر يومًا. إن قيام مجلس الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر بعقد اللجنة المشتركة لاستكمال الهيكل التنظيمى للمجلس، سيكون على رأس أولويات تلك اللجنة هو أمن الملاحة فى البحر الأحمر وخليج عدن، وستقوم على ذلك الدول المشاطئة. (2) يضم البحر الأحمر حاليًا 19 قاعدة عسكرية تديرها 16 دولة مختلفة. وقد أنشأت مصر قاعدة برنيس العسكرية إدراكًا لأهمية المنطقة الاستراتيجية. كما لعبت الصين دورًا فى تطوير وتحديث محطة الحاويات فى ميناء بورتسودان. مع تأسيس تحالف "حارس الازدهار"، عززت الدول الحليفة من قدراتها البحرية فى المنطقة، أرسلت بريطانيا المدمرة "ريتشموند" لتنضم إلى المدمرتين "دايموند" و"لانكستر"، العاملتين ضمن القوة المشتركة 150، بالإضافة إلى ثلاث سفن لإزالة الألغام وسفينة دعم. كما شاركت فرنسا بسفينتين، هما الفرقاطة متعددة المهام "لانغوديك" وسفينة الإمداد "جاك شوفالييه". وفى 25 يناير2024، أعلنت هيئة الأركان الفرنسية إرسال فرقاطة ثالثة "ألساس" إلى المنطقة. كما تشارك كل من إسبانيا وإيطاليا بقطع حربية فى القوة المشتركة 150، فيما تخطط سريلانكا لإرسال سفينة أيضًا، لتنضم إلى ثلاث سفن ترفع أعلام الاتحاد الأوروبي. وقد أسست دول الاتحاد الأوروبى قوة "ASPEDS" لتعزيز الأمن البحرى وبناء وجود دائم فى المنطقة. كما وصل مؤخرًا أسطول صيني، مما زاد من تعقيد الوضع فى ظل غياب التنسيق العسكرى والسياسى بين الأساطيل. فالقوات الأمريكية والأوروبية، بما فى ذلك العمليات الفرنسية المستقلة، لا تتحرك ضمن خطة موحدة. كما أن دخول الأسطول الصيني، غير المعنى بحماية المصالح الأمريكية، يتزامن مع وجود روسى فى الصومال، ما يكرّس حالة من التعددية البحرية المتنافسة دون نتائج ملموسة فى وقف الهجمات الحوثية. هذا الحضور العسكرى الغربى المتصاعد قد يؤدى إلى "عسكرة البحر الأحمر"، مع ما يحمله ذلك من تبعات إقليمية ودولية. كما يعكس الصراع البحرى امتدادًا للمنافسة الصينية – الأمريكية، حيث ترى بكين أن التوترات تخدم تعزيز النفوذ الأمريكى على حساب استقرار الصين ونموها القائم على التجارة.. وتخشى الصين من أن تُستخدم التوترات لتطويق مبادرتها "الحزام والطريق"، لا سيما عبر الضغط على قاعدتها الوحيدة فى جيبوتي. تشير المؤشرات إلى أن تصاعد الصراعات فى البحر الأحمر قد يُدشّن عصرًا جديدًا من التنافس الإقليمى والدولي، بما يهدد المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية للدول العربية، لا سيما المطلة على البحر. ويمثل استقرار البحر الأحمر ضرورة اقتصادية للدول العربية، كما يمثل شرطًا ضروريًا لإنجاح مشروع الممر الاقتصادى الذى أُطلق فى سبتمبر 2023 لربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، وإذا استمرت عسكرة البحر الأحمر، فقد تتأثر مضايق وممرات أخرى مثل هرمز والبحر العربي، ما يهدد المشروع بأكمله. مع هشاشة الوضع الأمنى والاقتصادى فى بعض الدول التى تعانى من عدم استقرار فإن منطقة القرن الأفريقى تواجه تحديات مركّبة، بعضها قد يُستغل من قِبل القوى الدولية ذات الأساطيل فى البحر الأحمر. لقد بات من الضرورى تحقيق توازن دقيق بين تعزيز الأمن والحفاظ على الاستقرار الإقليمي، عبر التعاون الدولى وتجنّب التصعيد، وفتح قنوات الحوار بين الأطراف المختلفة. إن تصاعد عسكرة البحر الأحمر وتكثيف الصراعات حوله يحمل آثارًا واسعة قد لا تقتصر على الإقليم فقط، بل تمتد إلى التوازنات الدولية، وسط منافسة القوى الكبرى للسيطرة على التجارة الدولية ومشاريع النفوذ البحري.. ومع تزايد القدرات العسكرية للأساطيل المتنافسة، وغياب التنسيق المباشر، تتزايد احتمالات التصعيد وسوء الفهم العسكري.