من بين أهم المؤسسات التى ترعى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات حول العالم يجيء مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمى للحوار فى النمسا، وهو فى الأصل مبادرة من المملكة العربية السعودية لاقت ترحيبا كبيرا وشراكة فاعلة من دول أوروبية مثل النمسا وفرنسا والفاتيكان، ومجلس إدارته يحفل بالمسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين. شكل «كايسيد» طوال السنوات الخمس الماضية حركة تنويرية وحوارية شهد بها ولها الجميع شرقا وغربا، لا سيما البرامج التدريبية التى يقوم عليها ويشارك فيها الشباب من مختلف الجنسيات والأديان من كل دول العالم، تلك التى يسرت من اللقاء المتبادل بين البشر، وفتحت الأبواب واسعة مشرعة للاتفاق عوضا عن الافتراق، وللشرح بدلا من الجرح. خلال الأيام القليلة الماضية كان كايسيد يقيم فى العاصمة اللبنانية بيروت مؤتمرًا خاصًا يحمل عنوان «دور القيادات الدينية فى حماية حقوق الطفل»، شارك فيه قيادات ومؤسسات دينية، وجميعهم ذهبوا إلى أهمية تنفيذ اتفاقية حقوق الطفل كونها أداة رئيسة للتصدى للتهديدات التى تواجه الأطفال اليوم. من أهم ما تم لفت الانتباه إليه فى ذلك المؤتمر ما جاء على لسان الدكتور محمد السماك، المفكر اللبنانى الكبير، وهو أن الذين رفعوا رايات التطرف والإلغائية للآخر، هؤلاء؛ لم يأتوا من كوكب آخر، ولكنهم خرجوا من بين صفوفنا، كانوا أبناءنا، لكنهم تربوا منذ نعومة أظفارهم على أن الدين هو احتكار للإيمان، وأن الإيمان هو احتكار للحق، وأن كل من هو خارج الدين هو خارج الإيمان ومعادٍ للحق؛ والثابت أن التيارات المتطرفة فى كل دين وحضارة قتلت الرحمة فى الإيمان وألغت الروحانية فى الدين. وسأل ماذا يبقى من الدين والإيمان إذا جردا من الروحانية والرحمة؟ من هنا تأتى مسئولية علماء الدين فى وجوب العمل على إعادة الإيمان إلى قواعده الأساسية، وهى الرحمة والمحبة والحرية وحفظ كرامة الإنسان، بما فى ذلك كرامة الأطفال وحقوقهم. هل بات على القيادات الدينية حول العالم مسئولية كبرى تجاه تغيير اتجاهات الرياح العالمية إلى طريق يخدم مسارات الإنسانية؟ يرى القائمون على مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمى للحوار بين أتباع الأديان والثقافات أن التحدى الرئيس اليوم يتمثل فى تحديد الدور الأكثر فعالية الذى يمكن أن تلعبه المؤسسات والقيادات الدينية فى المساهمة فى تنفيذ القوانين والممارسات لحماية حقوق الأطفال. وليس هناك شك فى أن المؤسسات الدينية تعتبر لاعبًا رئيسًا لضمان حماية الأطفال وكرامتهم وصحتهم وحقوقهم الأساسية التى توفرها المؤسسات الدينية الخاصة والهيئات الحكومية. وقد أشار مستشار كايسيد الدكتور محمد أبو النمر إلى أن أهداف هذا الاجتماع التشاورى تتمحور حول تفعيل دور القيادات والمؤسسات الدينية لمساندة صانعى السياسات فى جميع أنحاء العالم، ولتأكيد أن الدين ليس هو السبب فى اضطهاد حقوق الأطفال ولكن تكمن المشكلة فى بعض الممارسات والتلاعب وسوء تفسير النصوص الدينية وبالتالى العادات والممارسات الدينية المترتبة على ذلك. تنبه كايسيد إلى أن أزمة الإرهاب وكل الأزمات الحياتية المعاصرة، إنما نشأت وبزغت فى أحضان الطفولة عينها، ولم تكن بعيدة عنها فى يوم من الأيام، ومن هنا يبدو الترابط جذريًا وعضويًا بين الطفولة ودور القيادات الدينية المسئولة عن تنشئة أطفال اليوم. يمكن لتفسيرات الأديان ولا نقول الأديان نفسها أن تكون صيفا أو شتاءً، بمعنى أن توفر أجواء من المودات الإنسانية الفاعلة والمؤثرة بمحبة ومودة، ومن الممكن لها أيضا أن تضحى لهيبا مستعرا وجحيما قائما وقادما. من هنا تتجلى أدوار القيادات الدينية القائمة والقادرة على توجيه الدفة نحو الآخر بصفته المكمل والمتمم لوجودي، وليس النظرة التى تحمل الشك والتخويف الذى يصل إلى حد التخوين وجميعنا يتذكر المقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسى الوجودى الأشهر:»جان بول ساتر» والتى ذهب فيها إلى أن الآخرين هم الجحيم. وفى ختام المؤتمر؛ تم الإعلان عن توصيات المشاركين التى نصت على: تدريب خبراء من المؤسسات الدينية التربوية وتمكين قدراتها فى قضايا الدفاع عن حماية حقوق الأطفال بالتوافق مع وثيقة الأممالمتحدة للطفولة لحماية حقوق الأطفال؛ والعمل مع القيادات أو المؤسسات الدينية فى العالم العربى لتوفير فرص تعليم متكافئة لهم؛ ورفع وعى القيادات والمؤسسات الدينية من أجل العمل مع القيادات الدينية وصانعى السياسات على منع عسكرتهم وتجنيدهم فى الصراعات؛ وضرورة تبنى المؤسسات الدينية لوسائل التواصل الاجتماعى لمواجهة أضرار ومخاطر التقنية الحديثة على الأطفال، جنبًا إلى جنب مع العمل والتوافق مع مؤسسات التواصل الاجتماعى على إصدار وثيقة أخلاقية مشتركة لحماية حقوقهم على هذه الوسائل؛ التوكيد والتركيز على مسئولية المؤسسات الدينية فى العمل مع الأسرة، بوصفها الحاضن الأول لحماية الطفل ورعاية حقوقه من خلال رفع الوعى لدى الأسرة؛ والعمل مع القيادات الدينية للتأكيد أن التربية الدينية الوسطية الصحيحة هى حق من حقوق الطفل بالشكل الذى يتناسب مع عمره ومحيطه ويراعى فيها الجانب السلوكى لدى الطفل فى الأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينية؛ ومخاطبة وتشجيع المؤسسات الدينية المعنية للعمل على تنقية التراث الدينى الموجه للطفل والتخلص مما يساء استعماله أو تفسيره ويضر الطفل وحقوقه؛ بالإضافة إلى العمل مع المؤسسات الدينية وصانعى القرار السياسى لمساندة الجهود والحملات التى تهدف لتطبيق القوانين التى لمنع الزواج المبكر والعمالة والعنف الجسدى والجنسى الموجه ضد الطفل. جاء مركز الملك عبد الله فى توقيت يحتاج العالم إلى من يضمد جراح الفرقة ويعالج أزمات القومية والشعوبية التى تكاد تقسم العالم تقسيما كارثيًا.. إنه شمعة فى وسط الظلام.