قصة نجاح هيكل فى الصحافة والسياسة والحياة العامة تمثل نموذجًا يلهم الشباب كيف يتفوق، ويتحدى عوامل الإحباط، ويتغلب على العقبات - مهما كانت صعوبتها - بسلام «الإرادة». لم ينشأ هيكل فى أسرة غنية أو قريبة من دوائر السلطة والحُكم، ولكن نشأ فى أسرة «مستورة» وعاش فى حى الحسين.. ولم يكمل دراسته الجامعية ولكن حصل على دبلوم تجارة لأن والده كان يريد أن يستعين به فى تجارة الأخشاب.. ولم يكن طريقه سهلا لتحقيق حلمه فى أن يكون كاتبًا وصحفيًا فى وقت كانت مهنة الصحافة لا تحظى بالاحترام كغيرها من المهن أو وظائف الحكومة، وكان الصحفى يسمى «الجورنالجى» ولا يشترط أن يكون حاصلا على مؤهل، ولا نقابة له، ولا ضمان لمستقبله. كانت كل الظروف من حوله تدفعه نحو طريق واحد، أن يكتفى بشهادته المتوسطة، ويعمل فى التجارة مساعدًا لوالده، ثم يتزوج وينجب أطفالا، ويقمع أحلامه وطموحه، وقد يكتفى بالبكاء على حظه العاثر وظروفه الصعبة وقسوة الأقدار - كما يفعل غيره - لكنه لم يفعل ذلك، ومنذ البداية قرر أن يتعلم وأن يتفوق على المتعلمين، فالتحق بالجامعة الأمريكية (القسم الحر) وتعلم فيها اللغة الإنجليزية إلى أن أتقن التحدث والكتابة بها، وهناك التقى بالأستاذ طومسون رئيس تحرير صحيفة (الايجبشيشن جازيت) التى تصدر باللغة الإنجليزية، واستطاع بذكائه أن يلفت نظره فعرض عليه أن يعمل فى صحيفته محررًا للحوادث، وكانت هذه هى الخطوة الأولى على طريق طويل جدًا، وشاق جدًا، رسمه لنفسه.. وسار على هذا الطريق بخطى سريعة وواثقة وتحمل الكثير من المتاعب والمكائد التى يمتلئ بها الطريق أمام أصحاب الموهبة حين يحققون النجاح، وحزب أعداء النجاح حزب قديم يتجدد دائمًا ويزداد نشاطه فى محاربة الناجحين، ولا ينجو من مكائده إلا أصحاب العزيمة والإرادة الصلبة.. وهكذا كان هيكل. ??? قصة صعوده معروفة، من الايجبشيان جازيت إلى مجلة آخر ساعة مع الأستاذ التابعى، وإلى روزاليوسف، ثم إلى أخبار اليوم، وتحقيقاته الصحفية فى تغطية الحرب فى كوريا، والأزمة فى إيران، ونجاحه فى الحصول على أخبار القصر والأحزاب فى مصر، وقدرته على تكوين علاقات مع كبار وصغار السياسيين قبل ثورة يوليو، وعلاقته مع عبدالناصر والضباط الأحرار جعلته فى ليلة قيام الثورة يجلس فى مركز قيادة الثورة كمشارك وكصحفى بينما كان كبار الصحفيين ورؤساء التحرير لا يعلمون ما يجرى فى القاهرة، فكان هو المصدر الوحيد للأخبار فى هذه الليلة، وكانت هذه لحظة وصول هيكل إلى القمة فى مهنة الصحافة. قبل الثورة كان هيكل صحفيًا كبيرًا ومشهورًا، كان رئيسًا لتحرير مجلة آخر ساعة، وهذا ما جعل عبدالناصر يذهب إليه فى مكتبه ليستفسر منه ويناقش معه أسباب فشل ثورة مصدق فى إيران، وإمكان تدخل قوات الاحتلال البريطانى إذا قامت ثورة فى مصر، واستمرت الحوارات بينهما بعد ذلك إلى يوم رحيل عبد الناصر. وقصة نجاحه فى «الأهرام» أيضًا معروفة، بدأها وتوزيع الأهرام أقل من ثلاثين ألف نسخة يوميًا وتركها والتوزيع يزيد على مليون نسخة فى عدد يوم الجمعة بسبب مقاله الشهير «بصراحة» الذى كانت السفارات الأجنبية فى القاهرة تترجمه وترسله إلى وزارات الخارجية فى بلادها، وإذاعة صوت العرب تذيعه، والسياسيون والمثقفون، بل وعامة القراء فى العالم العربى يتابعونه، وكانت هذه قمة أخرى وصل إليها لم يسبقه إليها أحد. ??? حين كنت أعد بحثًا عن هيكل وأسلوبه فى المقال الصحفى قابلت كبار الصحفيين المعاصرين له، مصطفى أمين، وإحسان عبد القدوس، وعبدالرحمن الشرقاوى، وموسى صبرى، ونقيب الصحفيين فى ذلك الوقت الأستاذ حافظ محمود.. فقال لى حافظ محمود «إن هيكل نموذج للصحفى الكبير وهو الوحيد الذى تخطى الحدود وأصبح معدودًا من الصحفيين العالميين وهم قلة، ولكنه ليس صحفيًا فقط، بل هو سياسى أيضا.. وقال لى الدكتور صلاح مخيمر أستاذ علم النفس «هيكل هو الوحيد الذى ينادى باعة الصحف على اسمه يوم الجمعة قبل اسم الأهرام فتسمع صياحهم» اقرأ هيكل.. اقرأ هيكل» وظهر تأثيره حين أعطى لنفسه إجازة لشهر كامل فى أغسطس فهبط توزيع الأهرام أيام الجمعة هبوطًا كبيرًا.»، وقال لى مصطفى أمين إن هيكل ليس صحفيًا كبيرًا ولا حاجة (!)، وقال لى موسى صبرى: «اكتب.. هيكل ظاهرة شاذة فى الصحافة» واعتذر بقية الكبار عن إبداء آرائهم، وكان تفسير الدكتور صلاح مخيمر إلى هذا شىء طبيعى وهو ما يسميه علماء النفس «الغيرة المهنية»، فالمنافسة بين أبناء المهنة الواحدة تجعل بعضهم يشعر بالغيرة ويعبر عن ذلك بمحاولة التقليل من شأن الناجح من بينهم أو حتى يحاول هدمه إن استطاع، ولكن بعيدًا عن الغيرة المهنية كان رأى المفكرين وأساتذة الجامعات متفقًا على أن هيكل صحفى من طراز مختلف عن غيره من كبار الصحفيين فى مصر، وأنه الوحيد المعروف على نطاق واسع فى دوائر الصحافة والسياسة والرأى العام فى كثير من دول العالم. ??? وكتب الأستاذ أنيس منصور يومًا أن هيكل لم يشتهر إلا بسبب علاقته بعبد الناصر، وأنه كان فى إمكانه أن يضع يده فى جيب عبد الناصر فيحصل على الأخبار المهمة ولولا ذلك لما كان شيئًا مذكورًا، وكان هذا رأى كثيرين لأن علاقة هيكل بعبد العناصر تجاوزت حدود علاقة صحفى كبير برئيس دولة، إلى أن صارت علاقة صداقة شخصية، وثقة متبادلة، بل وصلت إلى حد المشاركة، وفى رأى البعض أن هيكل كان شريكًا لعبد الناصر فى كثير من القرارات المهمة وشريكًا فى المباحثات السياسية المهمة وعضوًا فى الوفد المصرى فى المفاوضات مع السوفييت، ومع قادة سوريا فى مباحثات الوحدة، بل وفى كل المباحثات والمفاوضات واللقاءات.. وفوق ذلك كانت علاقته بعبدالناصر علاقة عائلية وكان أبناء عبد الناصر ينادونه «أونكل هيكل» كما كان عبدالناصر يداعب أبناء هيكل فى زياراتهم المتبادلة والصور كثيرة تشير إلى المدى الذى وصلت إليه العلاقة بين هيكل وعبد الناصر التى لم يحدث مثلها بين صحفى ورئيس دولة فى أى زمان وأى مكان فى العالم.. والسبب - فى رأيى - أن هيكل لم يكن مجرد صحفى يبحث عن الأخبار عند رئيس الدولة، ولكنه صاحب رأى، يذهب إلى رئيس الدولة للحوار معه حول القضايا العامة دون حرج، ودون أن يخفى حقائق أو يزيف بعضها، ودون أن يلجأ إلى النفاق، ولكنه - حين يكتب - كان لا يكتب إلا ما يمكن إعلانه، ولهذا ظل يحتفظ بأسرار كثيرة لم يمنعه من نشرها إلا شعوره بالمسئولية وقدرته على التقدير لما يقال ومالا يقال وما يتعلق بالأمن القومى والمصلحة العليا للدولة، وبعد سنوات طويلة نشر بعضها، وظل محتفظًا بكثير من الأسرار والوثائق، وقد تظهر أو لا تظهر بعد ذلك. ??? قصة نجاح هيكل تستحق التأمل والدراسة والوقوف أمامها طويلا ليتعلم منها من يريد أن يتعلم كيف يمكن لشاب وسط ظروف غير مشجعة أن يحقق المستحيل، ويتفوق، ويصعد إلى قمة لم يصل إليها قبله، حتى وصفته مجلة نيوزويك الأمريكية بأنه «أسطورة الصحافة العربية».