مر علىّ ربيع وخريف وشتاء وصيف وعدت أيام ومرت شهور وسنين والحال هو الحال هو جرى إيه الحال ما بينعدلش ليه وكأن الواحد راكب قطار ولا مترو وجالس فى الكرسى الذى فى عكس الاتجاه والقطار يجرى ويجرى ويزمجر بصفارته القوية والناس لاتدرى أين هى بالضبط وكأننا جميعا فقدنا الاتجاه الصحيح رايحين فين مش عارفين وحتى جايين منين كلنا فقدنا القدرة على التمييز فيه إيه.. كل اللى شايفينه أيامنا بمرها الأكثر من حلوها. أسأل نفسى كثيرا هو سافر فعلا ورحل ولا هذا حلم أو كابوس وأنا لم استيقظ منه بعد .. طيب ما انا قلت له لا تتركنى وترحل ودعوته كثيرا وترجيته كثيرا لكن ماذا كان يفعل وهو أمره ليس بيده.. لقد بصقت عليها كثيرا هذه الغادرة الفاجرة التى حرمته من فلذات كبده وحرمتنى من فلذة كبدى أنا الأخرى، كنا نفرح مع بعض بلقمة حلوة بسيطة وكوب شاى سكره قليل ونضحك من فعل الأيام ويعجب هو وله ضحكة كلها براءة وإيمان ولكن. أول ما فتحت باب شقتى ووضعت المفتاح فى الباب ودخلت تشهَّدت على روحى وقلت الحمد لله إنى عدت سالمة إلى بيتى وأصبحت هذه عادة كلما رجعت إلى بيتى اتلو الشهادة.. لم يعد الناس فى الشوارع هى الناس الذين كنت أعرفهم جيدا ولم يعد البائعون هم نفس البائعين الذين كنت أعرفهم.. وأصبح التوجس والتوقع بالشر أكثر من الخير من يختبئ هناك ومن يتتبع خطواتك ومن يترصدك ومن يريد أن يوقع بك أو حتى يقتلك عادى أو حتى يقطع عيشك من على وجه الأرض؟. هو جرى إيه.. امسكته من يديه وقلت له يا حرامى هو هذا شرع الله هى الخمس جنيهات هذه التى تريد أن تسرقها ببجاحة تستاهل إنك تترصدنى وتفتعل معى خناقة الرسالة وصلت يا ننوس عين أمك.. أنت الحرامى وأنا استردتها من عينك.. وأول سائل سيقابلنى ستكون من نصيبه. ناس كثير داسوا على كل حقوقى وأخذوها بدم بارد وغلو على الماء والهواء والتراب والنور وحتى غلو على الكلام اللى حاجة ببلاش كده ولم اخلص من المكائد والدسائس والظلم والنفى إذا لزم الأمر. وإذا كان عاجبك.. أهرب من الناس دول ولا أهرب من الحى ده ولا اهرب من البلد دى.. ولا اغلق علىّ الباب والشباك واتربس الترابيس وأقول خلاص كفاية سأجلس فى بيتى انتظر جوده اللى لم يأت بعد. قالت لى رفضت تفتح الباب لأى طارق ورفضت ترد على التليفون ورفضت تتكلم مع أى أحد من عائلتها طرق بابها وهى لا تجيب وذهبت اليها وقلت لها من وراء الباب أنا نوال افتحى.. رفضت الكل لكن لأننى مثل ابنتها فتحت ووجدتها فى حاله مزرية والبيت ليس نظيفا وحولها ورق كثير ممزق وحشرات وهى فى حالة هزال ومريضة ولاتاكل ولا تشرب، ووجدتنى ابكيها وهى على قيد الحياة.. نقلتها لأقرب مستشفى ولم اتركها ولم تعد مرة أخرى كما كانت. كان رجلا قويا مهابا وكلمته مسموعة لايكسرها فردا من العائلة لحكمته ومعروف عنه الصبر والصبر يهد الجبال ولا يهد الرجال وإذا سار بجواره ثعبان لا يتحرك له ساكنا، والكف منه يطير الشرار من عينك طويل عريض رجل بمعنى الكلمة والرجال قليل. لايتكلم فى الفارغ والمليان إذا سأل أجاب على قدر السؤال ولذلك له كل القدر وكل الاحترام وغنى النفس بشكل يغيظ أصدقاءه قبل أعدائه ولم يكن له اعداء غير رجل واحد يكره فيه الكبرياء والكرامة رغم انه فقير وعلى باب الله والله يحب الفقراء ولا يحب الحقراء.. قال لى أنا لا اهتم بأى شىء أى كلام يدخل من الأذن اليمين يخرج من الأذن الشمال المهم الفعل ليس الكلام الفارغ والرجل بكلمته وموقفه من الحياة والحياة قصيرة جدًا جدًا والعمر يحسب بالدقيقةوالثانية لا تهتمى بالآخرين قوى لأنهم لايهتمون لحالك عيشى اليوم بكل تفاصيله الكبيرة والصغيرة وبكرة فى علم الغيب لما يجى حنعيشه. وعلى قدر عطائك ستأخذى واللى يأخذ أكثر يفقد أكثر والجزاء من جنس العمل.. أى حكمة لرجل لا يعرف حتى يفك الخط كما يقولون .ولكنى لم أفعل ولم احفظ الدرس جيدا وكانت لى معاركى الخاصة مع الحياة وما زالت.. وعاش هو طويلا. هو جرى إيه.. يوم الأحد القاهرة مغسولة وجميلة والمحال مغلقة إلا بعض الدكاكين الصغيرة التى تبيع المرطبات والسندوتشات والأرصفة فارغة وتنبعث بعض الأنوار الخافتة على استحياء من هنا وهناك.. يحلو لنا أن نسير أنا وهو فى شوارع وسط القاهرةالإسماعيلية بطرزها الإيطالية والفرنسية شىء جميل كان الخديو إسماعيل يريد أن تكون القاهرةباريسية المذاق يشرح لى الطرز ويقول لى أسماء المهندسين الذين بنوا ذلك وتلك ويملأ عينى بالجمال الذى تركه الأجداد ويعرف جيدًا التخطيط والفكرة من كل بناية وكل شارع وأسماء الشوارع ولماذا هذا سمى باسم فلان وعلان ولكن جرى إيه لا القاهرة قاهرة ولا الشوارع شوارع ولا باريس ولا يحزنون وتحولت إلى موسكى آخر (واثنين ونص تعالى بص)، ولو كان عايش لكان مات حزنا عليها ولكنه رحل منذ زمن. كما رحلت كل الأشياء الجميلة. عندما رآنى أول مرة قال كانت فين البنت دى أروح منها فين قال له اذهب وراءها شوفها هى زعلت ولا ايه لقد عاملتها بطريقة غير لطيفة روح طيب خاطرها.. وفعلا طيب خاطرى وقال إنه لم يعرفك للآن أتركى له الفرصة ليعرفك قلت له إننى أعرفه ابتسم ابتسامة طفيفة لأنه يعرف جيدًا أنه يعرفنى وأنه أرسل لمن يأتينى إليه لأنه يريدنى الى جواره فى هذه الفترة الحاسمة فى حياته. وكنت تميمة حظه. كثيرا ما قال لى اشترى فستا ن فرح أبيض وطرحة وارتديها وتصورى بها وكنت ألومه أنه يسافر كثيرا إلى فرنسا ولندن ولم يشتر لى فستان فرح ولم اتصور إلى جواره بفستان وطرحة بيضاء مثل أى عروس وعريسها وكنت استسخف الفكرة كيف اشترى فستان فرح وارتديه بمفردى وظل هذا حلمًا مؤجلًا إلى أن فات الآوان ارتداء فستان الفرح والطرحة، وليتنى فعلت. وأصبحت اتخيل نفسى فى فستان الفرح ترى كنت سأكون بأى شكل هل عروس رومانسية ورقيقة ناعمة سعيدة ولا مبتئسة لأنها جوازة لا تفرح القلب الحزين.. والآن أشعر اننى اخفقت فى حق نفسى وحرمت نفسى من متعة ولحظة بالعمر كله الفستان الأبيض والطرحة التى تحلم بها كل فتاة منذ ولادتها وحلمت فقط بهذا الرجل الذى غامرت بعمرى كله من أجله.. والذى ذهب بلا وداع.