اكتشفت صدفة أن الكتابة عن نظرية القرود الخمسة وتناولها إعلاميًا قد شاع خلال العام 2010 ولا أعتقد أن هذا حدث من قبيل المصادفة، ولو أنه أيضا ليس أمرا مدبرا على طريقة المؤامرة، لكن السبب فى رأيىّ غير إثبات ما ترمى إليه النظرية أن هناك حكاية لطيفة ومغرية للكتّاب، وأن تناول النظرية/ الحكاية واستعادتها والتركيز عليها خلال هذا العام كان يعكس ذروة رغبة مجتمعية فى التغيير، وهذه الرغبة التى خرجت من الناس كانت منصبة فى الأساس على النظام السياسى وهذا ما عكسه أرباب القلم، وقد أرادوا أن يشجعوا الناس على طلب التغيير من خلال حكاية القرود الخمسة. وأيضا استخدم هذه الحكاية مدربو التنمية البشرية الذين تكاثروا وانتشروا فى السنوات الأخيرة انتشار الأنفلونزا فى شهر يناير لأغراض شرح سلوك القطيع وأمور أخرى، ولكن .. قبل أن أكمل: هل تعرف أولا ما هى حكاية القرود الخمسة؟! (1) .. لا مانع من استعادة الحكاية للإخبار والتذكرة والعبرة، والحكاية عبارة عن تجربة وفى هذه التجربة أن شخصًا أحضر 5 قرود ووضعها فى قفص وعلق فى منتصف القفص حزمة من الموز، الطعام المفضل للقرود، ووضع تحت الحزمة سلمًا، وبعد مرور قليل من الوقت حاول قرد من القرود الخمسة أن يرتقى السلم للوصول إلى الموز، وما أن وصل القرد إلى مبتغاه حتى أطلق الشخص رشاشًا من الماء البارد على القردة الأربعة الباقين فى القفص وأرعبهم،وفشلت محاولات القرد فى الوصول إلى الموز، لكن بعد قليل من الوقت حاول قرد آخر غير الأول أن يكرر المحاولة فاعتلى السلم محاولا الوصول للموز.. وما أن اقترب حتى بدأ الشخص فى رش الأربعة الباقين بالماء البارد، ومع تكرار العملية ومرور الوقت وربط محاولة صعود السلم برش الماء البارد ثبت سلوك قطيع القرود عند الرهبة والخوف كلما حاول واحد منها اعتلاء السلم للوصول إلى الموز وبدأت باقى المجموعة تبادر بمنع أى واحد منها بالقوة يحاول الصعود إلى الموز خوفًا من التعرض لعقاب الماء البارد. وفى مزيد من التجربة أن الشخص أخرج قردا من الخمسة خارج القفص وأدخل مكانه قردًا آخر لم يتعرض للرش بالماء البارد وسرعان ما ذهب القرد الجديد نحو السلم ليصعد إلى الموز لكن لم تسمح له باقى القردة الخائفة من الماء البارد من الاستمرار بل قامت بمهاجمته لمنعه وغالباً اندهش القرد الجديد من سلوك القطيع لكنه بعد قليل عاود المحاولة وأيضًا عاودت القرود التى عانت الألم فى مهاجمته وبعد أكثر من محاولة تعلم القرد الجديد أنه سوف ينال عقابًا قاسيًا من مجتمعه إذا حاول الوصول إلى الموز، وهو لا يدرى سبب هذا العقاب أو يتبينه. أكثر من هذا، إذا ما تم إخراج قردًا آخر من القردة الأربعة التى تعرضت للرش بالماء البارد وإدخال قردًا جديدًا مكانه وحاول هذا القرد الصعود للموز فسوف يتعرض للعقاب من باقى المجموعة بما فيها القرد الذى لم يتعرض للرش بالماء وسوف يعاقب زميله المنضم حديثًا إلى المجموعة دون أن يدرى لماذا يفعل هذا، بل ربما يفعله بحماس أكثر من غيره وتفسير ذلك أنه «يشفى غليله» من عقاب القردة الآخرين له. وسوف تمضى التجربة على هذا المنوال حتى ولو أخرجنا من القفص كل أفراد الجيل الأول من القردة التى تعرضت للرش بالماء واستبدلناها بجيل جديد لم يتعرض لرش الماء البارد، وسوف يستمر هذا الجيل فى الاعتداء بالضرب على كل من يجرؤ على الاقتراب من السلم الموصل للموز (!!) (2) الحكاية مغرية على القبول بها وبنتائجها حين يلقيها مدربو التنمية البشرية والمتفلسفون ثم يسقطونها على سلوك البشر عندما ينخرط الفرد فى سلوك الجماعة الواحدة / القطيع ويتصرف مثل الآخرين دون وعى حقيقى لسبب تصرفه هذا، وعلى عكس ما يبدو من أنه سلوك للصالح العام، فهو فى الحقيقة أحيانا كثيرة ما يكون سلوكا أنانيا أو هكذا فسره عالم الأحياء الأمريكى هاميلتون سميث الحاصل على جائزة نوبل فى الطب عام 1978 فكتب فى مقال عن هندسة القطيع الأنانى أن كل عضو فى مجموعة ما (كما فى قطيع من الحيوانات) يخدم نفسه بالدرجة الأولى حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول فى الجماعة والسلوك بسلوكها. وأشهر الأمثلة على سلوك القطيع تجده فى البورصة فى لحظات البيع والشراء المحمومة وفى أوقات اتخاذ القرارات الروتينية، وفى أثناء المظاهرات (!!) والآن أسأل هل تصلح هذه النظرية فى تفسير سلوك المنخرطين فى جماعة الإخوان أو الباقين من المنضمين لحركة 6 أبريل؟! فكر أن تجيب بالرفض أو القبول.. وسؤال آخر: لماذا بدأت – أنا – بالحديث عن رغبة المصريين وأشواقهم للتغيير قبل يناير 2011 ووصلت إلى مظاهرات الإخوان التى تخرج إلى الشوارع أيام الجمع وفى المناسبات التى يحددونها.. ما وجه الشبه بين هذا وذاك؟! (3) إذا كنت من كارهى الإخوان فلن تجد – فى الغالب – أى وجه للشبه ولو حتى على الجانب النظرى لكن اسمح لىّ أن أقول لك عد إلى قراءة ما سبق وسوف تجدنى قد كتبت أنه قبل 2011 كانت هناك رغبة عند المصريين للتغيير..عند الأغلبية والأكثرية، لكن تغيير ماذا؟! تغيير النظام السياسى، والبداية كانت موجهة إلى رأس السلطة، وكان يعنى هذا فى العقل الجمعى تغيير الأوضاع للأحسن، بعد الإطاحة بالفاسدين من الحاكم إلى المسئولين فى نظامه، وبعد الثورة ارتفع سقف الطموح فى التغيير إلى المطالبة بتغيير الذات واستمرت الرغبة فى ذلك إلى وقت ليس بقليل بعد يناير 2011 ، وقبل أن تخفت الأصوات المنادية بالتغيير ثم تتلاشى تقريبا مع الخلاف بين المصريين ثم الاختلاف فالشقاق، فالحرب عندما صارت هناك رؤيتان للتغيير وفريقان، وصار مشروع التغيير مشروعًا سياسيًا فى المقام الأول والثانى وربما الثالث وتوارى فى الظل مشروع التغيير الاجتماعى القيمى والفكرى، والمصيبة أن كل فريق أراد فرض رؤيته على الأغلبية من جموع المصريين المدهوشة التى لم تفهم ماذا يحدث بين الفريقين؟! ولماذا هذا العراك والدم المراق؟! ولولا عناية الله وفضله علينا لوقعت الواقعة. (4) أقول قولى هذا وأنا حزين.. وأنا أرى الفرصة تتسرب من بين أيدينا كما يتسرب الماء من خلال الأصابع، وتكاد اللحظة تنفلت والرغبة تؤد ويحل محلها ما كان قبلا من أسئلة المتفيقهين و«اللتاتين والعجانين» الذين لا يجيدون إلا الصراخ فى الوجوه: كله باطل.. كله فاسد ..لا جدوى فى الإصلاح.. لا تغيير.. وهم حين يقولون هذا فهم يستثنون أنفسهم ويحاولون أن يقنعوا السامعين أنهم خارج قفص القرود ولو أنهم فى الحقيقة داخله بامتياز.. يا هذا أنت قرد كئيب لديك فى رأسك مخ القرود وليس عقل البشر، أما أنا فلن أستسلم لصراخك الذى تعاقبنى به كلما تحدثت إليك ، لأننى أؤمن بأن الله سبحانه ما خلقنى إلا لكى أسعى فى تنفيذ مشيئته فى الخلق، فى عمار الكون الذى يستلزم تغيير أفكارى بتحصيل مزيد من العلم والخبرات، وتغيير مشاعرى السلبية وإحساسى بالعجز أو اليأس إلى التفاؤل والقدرة على الإنجاز والشعور المتجدد بالحياة والعطاء والبذل، وسوف أسعى إلى تغيير السيئ من سلوكى وممارساتى إلى سلوك وممارسات إيجابية ما استطعت. لقد عرفت طريقى بهدى من الله وسعى من نفسى ولن أخرج من بيتى فى الصباح لهدم أو جرح أو قتل الحياة ولكن للبناء وتطبيب المجروح وإحياء النفس التى حرّم الله قتلها، وسوف أحيا إنسانا ما استطعت ولن أقبل أبدا أن أكون قردا.