استسهل كثيرون من الذين راقبوا الأحداث بعد ثورة?52? ?يناير أن يلجأوا إلى تعبير? «?الطرف الثالث»? ?ليحلوا به أى مشكلة? ?غير منطقية فيما يرونه من أحداث،? ?فكيف يمكن للثورة أن تخرب مسارها بأحداث? ?غريبة ومتناقضة مبكرة مثل أحداث البالون؟ إذاً? ?فلابد أن هناك طرفا ثالثا?.? ثم تبلورت الأمور فى اتجاهات محددة،? ?وبصفة خاصة بعد أحداث ماسبيرو وما شابهها،? ?حتى إن بعض الكتاب لم يفرطوا فى اتهام المجلس الأعلي للقوات المسلحة بأنه هو نفسه الطرف الثالث،? ?أو بأنه الراعى السرى أو الفعلى أو الرسمى للطرف الثالث?. وقد صادف هذا المعني هوى من قوى وطنية كثيرة،? ?علي الرغم من عدم الرغبة فى الاقتناع به،? ?بيد أن الأمر كانت له جذور متفاوتة?.? ومن العجيب أن أذنى بحكم اللغة لا بحكم السياسة،? ?انزعجت أيما انزعاج حينما صدر أول تصريح عن المجلس العسكرى متضمنا القول بأن المجلس يقف على أبعاد متساوية من جميع الأطراف،? ?وبلغ? ?بى الانزعاج يومها أن قلت علي الهواء?: ?إن الذى أشار بهذا التعبير قد خانه الصواب فى التعبير عن حقيقة الموقف الذى ينبغى أن يقفه المجلس الأعلى،? ?أو الذى أتصور أن المجلس يحب أو يجب أن يقفه،? ?ولم أكن أتصور بعد هذا التنبيه القوي الذى أذعته وأشعته أن يعود المجلس إلي استخدام هذه الجملة? (?القاتلة?) ?القائلة بأنه يقف على أبعاد متساوية من جميع الأطراف،? ?وعندئذ قلت لأحد قادة المجلس العظام وجها لوجه?: ?إن هذا التعبير خطير جدا علي صورة المجلس وأدائه،? ?ذلك أن معناه لا يقف عند حد أن المجلس يقف متوسطا بين الثورة والثورة المضادة فحسب كما تريدون أن تقولوا مستوحين صورة النزاهة والعدل والتسامى،? ?ولكن معناه الأعمق هو أنكم تعطون شرعية للثورة المضادة التى لا تعطيها أى ثورة ناجحة أى نوع من الشرعية،? ?ولا تكتفون بالاعتراف بها فحسب،? ?وهو أمر لن يمكن فهمه إلا فى إطار واحد هو أنكم أميل إلي أن تكونوا ضد الثورة وضد فكرتها كما? ?يقول البعض الآن،? ?وأنكم أصبحتم الآن ضد ما صور من انحيازكم الواضح للشعب فى أول فبراير،? ?وكأنكم تريدون أن تأكدوا علي الفكرة التي تقول بأنكم لم تكونوا ضد أي شىء إلا التوريث فحسب?.? صمت القائد العظيم،? ?وبدأ بوضوح وكأنه وصل إلي الاقتناع بطرحي،? ?واستمهلنى،? ?ثم إذا بعد أسبوع من هذا الحديث أجد أن وتيرة استخدام تعبير المسافات المتساوية بدأت تزداد،? ?وكأنما الأمر قد تمت مناقشته وتم اتخاذ قرار في هذا الشأن?.? وهكذا انتهي الحال بثورة? ?25? ?يناير قبل مضي شهور من اندلاعها إلي أن أصبحت سلطة الدولة تعترف بوجود ثلاثة أطراف?:? قوي الثورة من ناحية?.? قوي الثورة المضادة من ناحية ثانية?.? سلطة الدولة المتمثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة من ناحية ثالثة،? ?ومن العجيب أن سلطة الدولة هذه كانت كثيرا ما تعبر عن ضيقها إذا وصفت بأنها سلطة الدولة?.? وقد قادنى هذا إلى تطوير خطابى السياسى الإعلامي في اتجاه آخر،? ?وهو التوكيد علي مسئولية المجلس الأعلي للقوات المسلحة عن سلطة رئيس الدولة بكل ما? ?يستتبعه هذا من أداء سيادى،? ?وتنبؤ واجب بما يمكن من أثر أو تأثير للأحداث المقبلة وسياسات مواجهتها،? ?لكني فوجئت من الناحية الأخري،? ?وعلى مسمع من الجماهير المشاهدة للفضائيات بأحاديث متكررة من أعضاء المجلس تؤكد علنا علي فكرة انصرافهم التام عن ممارسة سلطة الدولة تحت دعوى عدم رغبتهم ورغبة القائد العام المشير طنطاوى فى الاستمرار فىالسلطة،? ?وكانت هناك دلائل كثيرة على أن المجلس الأعلى لا يريد أن يمارس هذه السلطة السيادية كما ينبغى،? ?حتى وإن كانت هناك دلائل كثيرة على أن المجلس يريد تأجيل تسليم السلطة?.? وعلي سبيل المثال فإن المجلس أجل تعيين المسئولين فى كثير من الوظائف التىيصدر قرار التعيين فيها من رئيس الدولة?/ ?الجمهورية،? ?وأبرزها وظيفة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات،? ?كما آثر التجديد خارج الزمن لكثيرين في وظائف من التى كانت تقتضى مثل هذا التعيين?.? ووصل الأمر قمته عند تأجيل تعيين الأعضاء المعينين في مجلس الشوري?.? وفى تلك الفترة دار حوار متصل ومتكرر بيني وبين كثيرين من مستويات مختلفة من أبناء الوطن الذين كانوا يريدون الوصول إلىحقيقة الأمر،? ?شأنهم شأن كل إنسان باحث عن الحقيقة ومضطرب فى بحثه عنها بين ظواهر متناقضة تقول بالشىء وعكسه،? ?وبالطبع فقد كانت خبرات معظمنا بالتاريخ والمنطق والنفس البشرية تحكم ما نصوغ? ?من آراء أو اعتقادات،? ?لكننا مع كل مقومات هذا الوضوح العقلى فى أذهاننا كنا نواجه بغمام شديد فيما نراه من تصرفات وقرارات وتوجهات وتحالفات وترحيبات تجري أمام أعيننا،? ?وكنا نواجه أيضا بما يتسرب إلينا من إيحاءات بعض أعضاء المجلس للبعض من هذه الفئة أو تلك،? ?وبخاصة من فئات رجال القانون والدستور والمشتغلين بعلم السياسة والإعلام،? ?ولقاءاتهم بالبعض الآخر ودفعهم لهذا فىاتجاه ما،? ?واستجابتهم لذاك فى اتجاه ما?.? هكذا وصلت دون ذكاء إلي القول بأن المجلس ليس رأيا واحدا،? ?وليس قلبا واحدا،? ?لكنه آراء وقلوب،? ?ومع أنني كررت هذا القول فى أكثر من وسيلة إعلامية،? ?فإن أحدا من المجلس لم يرد علىّ،? ?ولم ينف صحة ظنى،? ?ولم يعن بأن يوجهنى إلى أنى أخطأت الاستنتاج?.? وهكذا وجدتنى أصرح بعد فترة بأن هناك حقيقتين متلازمتين? (?وإن كانتا متناقضتين?) ?لا حقيقة واحدة?.? ? ?الحقيقة الأولى هى أن رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة يريد تسليم السلطة والخلاص من كرة اللهب التى ألقيت في يديه? (?أو في حجر?: ?على حد تعبيره الذى كرره كثيرا للمقربين منه،? ?أو الذين قابلوه من الداخل والخارج?).? ? ?والحقيقة الثانية أن بعض أعضاء المجلس لا يرغب فى هذا التسليم بأية صورة من الصور،? ?وأن هذا البعض يلجأ إلى كل الأساليب التي تجعل المجلس يحتفظ بهذه السلطة ولا يسلمها لا لمدني ولا لعسكرى،? ?وأنه يوظف معارف وخطابات ومشاركات ومداخلات وتعقيبات وأسئلة كثيرين من المتصلين بالمجلس العسكري لهذا الغرض توظيفا مستمرا ودائبا،? ?بل إنه يعمد إلىالاستعانة بما يشبه شركات أو مؤسسات متخصصة في التفكير البدائلي من أجل البحث عن السيناريوهات الكفيلة بأن تنهى الأمل فى هذا التسليم تماما?.? لم أكن أبالغ? ?فيما قلت،? ?ولم أكن أرجم بالغيب،? ?فقد كانت الأدلة الدامغة واضحة كل الوضوح حتى وإن لم يكن فى وسعى التصربح بها الآن،? ?ولا بعد الآن بقليل،? ?وكانت تقول بهذا الذى أقول به الحالة النفسية والوجدانية التي نصادفها ونحن نرى وجوه أصحاب القرار وملامحهم على الهواء تحت الكاميرات الكاشفة والفاضحة?.? لكن هذا كله ظل وكأنه لايزال محصورا في نطاق تشخيص من نسميهم في الطب? «?الاستشاريين القدامى?»?،? ?ولم يكن من الممكن لغيرهم أن يدركوه بالوضوح ذاته?.? وظل الأمر كذلك حتى ظهر طرف ثالث جديد كان شبقه إلى أن يستمر المجلس العسكري فى السلطة أكثر بكثير حتى من شبق أعضاء العسكرى الراغبين في هذا الاستمرار،? ?وهنا حدثت المفارقة التى وصفها القدامى بقولهم فى وصف مثل هذا الطرف إنه ملكى أكثر من الملك? (?وعسكرى أكثر من العسكرى و?.. ?إلخ?)?،? ?فقد اندفع هذا الطرف الثالث الجديد اندفاعات متوالية من أجل إبعاد السلطة عن يد الشعب بأى ثمن?.? وهكذا بدا وكأن هذا الطرف الثالث الجديد أخطر على الشعب من القنبلة الذرية،? ?وأخطر علي? ?الثورة من القناصة?.? ومع أن هذا الطرف الثالث الجديد كان بحكم طبائع الأمور منقادا لقائد فإنه ظن أن حماسه الزائد يتيح له أن يفرض علي القائد? (?الذي? ?يوظفه?) ?ما يراه،? ?وكأنما أصبح الملكي في مكانه أعلى من الملك?!! ?ومن المؤسف أن أحد أعضاء المجلس العسكرى بالغ? ?في تقديره لصواب رأي الملكى،? ?وبالغ? ?للملكي في تصوير قدرته علي إقناع رئيسه بأن هذا هو الطريق الوحيد الذي أمامه?.? بل إن هذا العضو وصل إلى حد الاعتقاد المشوش بأنه بمقتضى ما يكتبه مما? ?يسمبه تشريعا أو قانونا أو إعلانا? (?أو ما يكتب له?) ?يملك سلطة الرب الأعلي فى هذا العالم الذى نعيشه،? ?وفى هذا الوطن الذي ننتسب إليه،? ?فإذا جادلته بأن أصول العلم والفن فى الدنيا كلها لا تقول بما يقول به،? ?قال?: ?إنه ليس مسئولا عن الدنيا،? ?لكنه مسئولا عن أن يحكم فيما بين يديه بما يعرف هو أنه صواب،? ?وإذا جادلته بأن رأيه يحتمل الخطأ لم يثر،? ?وإنما أجاب فى برود بأن هذا الذى يقوله هو الذى سينفذ حتى لو كان خطأ،? ?لأنك لا تستطيع? (?كما يقول?) ?أن تغير فيما تم إقراره،? ?وإذا قيل له إنه يقود الأمر إلى حافة خطرة قال?: ?إنه يعرف ما يقول ويعرف أن الخطر بعيد?.? وكان الطرف الثالث الجديد الذى يمكن التعبير عنه بلفظ? »?الملكي?« (?أي الملكى الأكثر ملكية من الملك?) ?يري هذا الثبات والتعنت الذي يبديه عضو المجلس العسكرى فيزداد اطمئنانا إلي أن البناء الورقي ثابت كالأهرام،? ?وبالطبع فإن المراقبين كانوا يرون هذا فيصدقون?!? وكنت فى كل مناقشاتى مع كل المتنفذين والمطلعين والمراقبين ولا أقول معظمهم قد فشلت تماما فى إقناعهم بأننا في عام? ?2012،? ?لكنى مع هذا وصلت إلي حالة من إشفاقهم على أننى أقف وحيدا فى صف ليس فيه أحد? ?غيرى يؤمن بالرأى الخاطئ? (?حسب تشخيصهم?) ?الذي لا يعترف بأن البناء الذى يحترمونه? (?أو يتصورنه حاكما?) ?هو الأساس،? ?وهو الحكم،? ?وكانت قدرتى علي الرجوع إلى الصواب تشفع لي عندهم،? ?فهم يعرفون أنى سرعان ما سأعود إلي الصواب حسبما يتصورونه،? ?لكنني? ?مع هذا ظللت أستند إلى ثقتى فى نفسى? ?وأقول لهم إن البناء الذي بناه الطرف الثالث ليس بحاجة إلي عود كبريت لإحراقه،? ?وإنما تكفيه نفخة واحدة في وقت مناسب تتوانى الرياح الخفيفة? (?لا المعتدلة?) ?فيها فى الاتجاه المطلوب،? ?وعندها يصبح هباء منثورا?.? ومع هذا فإنهم كانوا ولا يزالون يظنون بى الجنون?.