ملأ الكاتب الراحل خيري شلبي صفحات كتابه "مراهنات الصبا" ببورتريهات لعدد كبير من المبدعين الذين أنبأت بداياتهم بإمكانات إبداعية كبيرة لكن عجلة الحياة دهستهم بقسوة فانتهوا محبطين دون أن يكملوا طرقا بدأوها ، وقدم الناقد شعبان يوسف أكثر من كتاب لإنصاف المظلومين أو المهمشين، مؤكدا أن من تناول سيرهم في كتابه ليسوا من المغمورين بل أنهم أصحاب قضايا حقيقية ومواقف سياسية أو ثقافية، وتم اقصاؤهم تبعا لتلك المواقف. وقبلهما صرخ "محمد حافظ رجب" نحن جيل بلا أساتذة، فقد كان يؤلمه ما يلاقي من عنت التجاهل والتهميش، لكن قاموس أكسفورد أنصفه بعد نصف قرن وذكره كأهم مجدد في القصة القصيرة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. فكم من مواهب ضاعت في متاهة المسافة بين المركز والأطراف، لم يرتبط حضورهم في المشهد الأدبي بقدر موهبتهم، وتم تغييبهم عن عمد، سواء لاختلافهم سياسيا وفنيا أو لأسباب ترتبط بالغيرة والتنافس، أو لمجرد البعد عن المركز في القاهرة. المركز والهامش الناقد والروائي محمود قاسم يوجز أسباب التهميش في "البعد عن القاهرة" فقد ارتبط انجازه بانتقاله إلى القاهرة، ولو بقي بعيدا في الأسكندرية لما تمكن من نشر الكتب والموسوعات التي نشرها، ويضيف قاسم مدللا على صواب فكرته " أمامي نموذجان بالغي الأهمية: هما الروائيان الكبيران إبراهيم عبد المجيد ومصطفي نصر، وقد ولدا في نفس السنة، وفي نفس المدينة وقد كتبا كثيرا عن الإسكندرية وعن أيامها القديمة، وحدث أن اختار عبد المجيد الحضور إلي القاهرة والتوظف فيها فصار عالميا، أما مصطفي نصر الذي بقي حبيس مدينته فظل ينشر أعماله ببطء وفي طبعات محدودة رغم تميزه، ولم يدخل دائرة الضوء التي يستحقها إلا وهو علي مشارف السبعين بعد النجاح الساحق الذي حققته روايته "يهود الأسكندرية" ولو كان قاهريا لحظي بالشهرة قبل أكثر من ثلاثين عاما حينما أصدر روائعه الروائية "جبل ناعسة" و"الجهيني" و" الهماميل". ويضيف قاسم :"الكاتب المسرحي الطليعي السيد حافظ توهج كثيرا عندما كان في الكويت، واستمر تألقه حينما جاء إلى القاهرة لكنه عندما عاد إلي الاسكندرية انحسرت عنه الأضواء، كذلك عاش ومات الكثيرون من المبدعين السكندريين دون الحصول علي تقدير يستحقونه ومنهم الروائي الراحل سعيد بكر". التهميش نوعان الروائي عبد النبي فرج يميز بين نوعين من التهميش، أولهما يحدث بدافع ذاتي لدى المبدع الذي قد يرغب في العزلة حتى ينتج نصوصه بعيدا عن إرهاب القاري وتنميط الناقد وحصره في منطقة محددة لا يستطيع مغادرتها، والنوع الثاني تمارسه جهات عدة، مؤسسات ثقافية سلطوية، صحف، مجلات، نقاد، منتديات لإقصاء كاتب نتيجة مواقفه السياسية المعارضة وهنا يقوم المثقف المخبر بهذا الدور الإقصائي تجاه المعارض من خلال حجب وإقصاء أي منتج لكاتب والموضوع ليس شخصيا بمعنى أن هذا الكاتب الذي يعمل في الصحافة مدين بالولاء للنظام السياسي، فهو الذي يصعده في الصحيفة أو المجلة، وهو من يسقطه ويحجب أي ميزة عنه لذلك لا كلام هنا على موهبة أو نزاهة فالموضوع تحول إلي هات وخد، أنت هنا في هذا المكان لتخصخصه لصالحك مثل أي بيروقراطي فاسد في المحليات مثلا، أو في المحاجر في مقابل إخصاء المشهد وتحويله لسوق للسمسرة، هل تتصور أن هذا الصحفي لو كان خارج مهنة الصحافة ما كان ليحصل على 1% مما حصل عليه ؟ هل تتصور مصيره ككاتب لو أنه ظل في قريته بعيدا، كان إما أن يتوقف عن الكتابة أو يلبد فى قصر الثقافة منتظرا دوره في النشر الإقليمي؟ وحينما يصدر كتابه قد لا يشعر به أحد. الطحن والضجيج الشاعر "مؤمن سمير" يخالفه الرأي قائلا : " في كل زمن تنتشر ادعاءات واكليشيهات و كلها أمور خارج الكتابة، وتنبع غالباً من الثرثرة الفارغة بعيدا عن الإبداع، ثم يتلقفها من هو مهموم بالضجيج وليس بالطحين فينظر لها ويُقَعِّد ويصنع نقاشاً صاخبا لتمتلئ الصفحات، ويُصنع المُنِّظرون ويستفيد الجميع: الصفحات الثقافية والمقاهي والمؤسسة التي تهز رأسها انتشاء بنجاحها أو بانضمام وفود جديدة تقوم عنها بالعمل ..الأمر ببساطة هل هناك مبدع أم لا؟ فالجغرافيا لا يمكنها أبدا أن تعوق الإبداع الجيد ، نعم هناك صعوبات طول الوقت هنا وهناك والأمر يعود لمدى تحمل المبدع ومدى صبره، يحدث أن ألتقى بأدباء من العاصمة فأجدهم يشكون من سيطرة أدباء الأقاليم، وبالنسبة لي فالمسألة هكذا: المركز هو المؤسسة التي تفتح السماء للحرية والنور أما الهامش هو الابداع عموماً الذي يناضل ليتنفس، وليسا أبدا مسألة جغرافيا. امكانية الاختراق الروائية والكاتبة "انتصار عبدالمنعم" تؤكد على وجود الظاهرة لكن تقلل من آثارها، وتؤكد أن فكرة تفوق المركز يمكن اختراقها ، وتقول عن تجربتها "لن أدعي المظلومية يوما فلم يكن في ذهني أي تصور أو توقع لما حققته إلى اليوم، فلم أخطط لشيء، بل على العكس تماما، كل شيء حدث يقع في مقام الدهشة مني، فأنا أكتب بروح المحب، الذي يكتب ما يحب في الوقت الذي يحب، وبالطريقة التي يحب، ولذلك من أشد لحظات السعادة عندي أن يحب القارئ ما أحببت. ربما كان يمكن لبعدي عن القاهرة أن يؤثر سلبا، لكن شبكة الانترنت ومواقع التواصل عوضتني عن البعد الجغرافي عن العاصمة. وثانيا العامل الأكثر حسما هو موهبة الكاتب ودأبه، فمثلا أنا بين جدران بيتي، حققت في سنوات قليلة مالم يحققه كثيرون في عشرات السنوات. حصلت على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس للقصة القصيرة، وحصلت على جائزة د. عبد الغفار مكاوي عن مجموعتي الأولى "عندما تستيقظ الأنثى" ، وتمت ترجمة روايتي "لم تذكرهم نشرة الأخبار" إلى الأسبانية، وفي أدب الطفل حصلت على جائزة مكتب التربية لدول الخليج العربي، كل هذا ولا يستطيع أحد أن يحدّد أي شلة أنتمي إليها. قد يكون هناك فساد ولكن في النهاية العمل الجيد يفرض نفسه. خدمة ( وكالة الصحافة العربية )