وفي غمرة العجلة الزمنية صحوت يوما علي حادثة عارضة ظننتها لحظة عابرة فاذا بها نقطة فارقة في حياتي السابقة واللاحقة.. وجدت اخي الصغير ذلك الطبيب الاستاذ بقصر العيني الحاصل علي الدكتوراة والزمالة البريطانية ذلك الشاب في اوائل الاربعين من عمره الجميل قد سقط فجأة بمرض غريب وحالة طبية نادرة حيث دماؤه تتكسر وتتحور من ذلك اللون القرمزي الي صفرة باهتة قاتلة واذا بقواه تخور وجسده القوي البنيان يئن ويتوجع واذا بدموعه الغالية تفصح عن الم نفسي وجسدي يدق بقسوة مواطن الاحساس المرهف والحس الرفيع، كيف للحياة، ان تغير الوانها فجأة وهل سخرية الايام المارة بنا تخرج لنا ألسنتها في شماتة وتحد وتأكيد علي ان للايام والدقائق والثواني قانونها الخاص الذي لا يقدر بشر علي التنبؤ بصوره أو بنوده أو اعرافه. وفي هذا النفق الانساني الحالك الظلمة رأيت ما لا عين رأت، وسمعت مالا اذن سمعت رأيت اناسا يمتلئون حبا وودا واصرارا علي التحدي رأيت اصدقاءه وكأنهم ذلك البنيان المرصوص وعمل ابن آدم الصالح قد تجسد امامي في مشهد قل ان يتكرر الا في الجنة رأيت شبابا وصغارا وكبارا اسدي اليهم اخي الصغير معروفا أو زار مريضهم او طبب جراحهم أو حتي عادهم بالسؤال وسمعت كلماتهم تتردد انهم مدينون للدكتور ايمن بالكثير فيكفي اخلاقه ودماثة كلماته ورقة مشاعره ونخوته وعطاءه وتواضعه مع الكبير والصغير والفقير قبل الغني وحلمه وانسانيته وعلمه الغزير ومواقفه وذلكم الحمل البشري الذي يحمله علي كتفيه ويسير به في طريق الاشواك والصعاب لا يكل ولا يمل ولا يشكو أو يتذمر. وتذكرت يوم كان ابي مريضا والشهور والسنين التي قضاها الي جواره وأجل رسالة الدكتوراة وان كان نجح بها وحصل علي الدرجة من أول مرة وهي حالة فريدة، وتذكرت انه رفض السفر الي الخارج حتي يظل الي جوار والدي رحمه الله في ايامه الاخيرة وحين رحل الوالد رفض السفر ايضا ليكون الي جوار امي وجوارنا وهو النابه المتفوق كيف يتعامل مع البسطاء في شارعنا وحينا وكيف يلقي السلام والتحية ويتبادل الضحكات والبسمات مع العاملين والممرضات والمرضي وكيف يقضي معظم وقته مع اصدقائه واهاليهم يعيش مشاكلهم وافراحهم ويشاركهم صلواتهم وقداسهم ولا ينسي ادق تفاصيل ايامهم، وكيف يصل رحم اهلي وان ابتعدوا لمشاكل دنيا نعيشها جميعا في لهث وصراع وفراغ عاطفي انساني وسباق مادي يفقدنا انسانيتنا ومشاعرنا التي ولدنا ونحن اخوة من اب واحد وأم واحدة. سمعت دعاء بكل العبارات وصلوات في المسجد واخري في الكنيسة وشموعا تقاد وذبائح تراق دماؤها ولكأن حجر الشوارع يدعو له وحين طلب اصدقاؤه واخوته دماء حق يكون العلاج اذا بجموع من كليته والمستشفيات التي عمل بها واناس لم أرهم في حياتي قد جاءوا طوعا لا كرها يملؤهم الشعور بالمودة والعطاء والعرفان بالجميل، الكل في حال خشوع وتضرع كل يدلو بدلوه وجزء من شريان حياته يهبه الي ذلك الشاب المسجي في جلال المرض وحنان البشر بانتظار المعجزة الالهية وقد حدثت حين اجتمعت دماء متنافرة وجينات متفرقة بوريده الواهن لتؤكد ان البشر اخوة وان الاخوة في الأرض ممكنة وان كانت القلوب طاهرة والنوايا صادقة، فلكأن دم الغلابة والمساكين وهؤلاء الاطباء الاحباب والاصدقاء الذين وهبوه حبهم ووقتهم ودماءهم قد صب في شريان الحياة ليكون نبيذا للجنة وخمرا للفردوس المفقود.. قد تدب أواصر الحياة بأوصاله وقد يتعافي من محنته وقد يعود الي أخي الحبيب وقد وقد وقد.. قد تتبدل الأيام وتتغير الساعات والوجوه والاحلام وقد نعود الي سيرتنا الاولي لكن الحقيقي والباقي ان الانسان عطاء وان البنك المادي زائل فلا منصب ولا جاه ولا مال ولا علم ولا سطوة ولا رهبة لا شيء سوي الانسان وهذا الحبل الوريدي الصادق، الذي تجري فيه دماء الود الانساني والصداقة الحقيقية والمشاعر البشرية فالود موصول عندما يصبح الانسان اخا للبشرية الاولي في مهد الكون يشرق دوما مع ميلاد