حياتنا في مصر: يوم حلو.. وعشرة مر. لحظة حلوة تعقبها مائة ساعة مالحة كالحة. انتصار.. تدخله ثغرة. كأس نشرب بعدها رغب انفلونزا الطيور. وقبل هذا وأثناءه، تقع كوارث طائرة شرم الشيخ. قطار الصعيد. عبارة سالم سنة 1996 ثم عبارة السلام ،95 ثم عبارة السلام 98. الفرحة في حياتنا قليلة.. لكن لا أنوي هنا أن أقوم بدور الندابة أو المعددة. والأخيرة هي السيدة التي يستأجرونها في الجنازات وسرادقات اللطم والعويل (وأحيانا تتبرع علي سبيل المجاملة) لكي تعدد مناقب ومآثر الفقيد! الحقيقة أنني أنتوي أمرا آخر.. وهو أن ننبه إلي الذين يقومون بدور المعدداتية في الصحافة المصرية وفي غير الصحافة المصرية. علي صفحات الجرائد.. وعلي أرصفة الشوارع. ناس تكتب بأسلوب يستهدف إشاعة الذعر ونشر ثقافة الكارثة. وناس تجلس علي المقاهي وفي البيوت لتتكلم بثقة جنرالات الطب عن الأوبئة التي تجتاح مصر بسبب أعمال الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها. الكل يتنافس في إلحاق المصيبة بأن مصر تنال نصيبها العادل في الكوارث جراء اختيارها حكومة ما كل أربع أو خمس أو تسع سنوات. الذين يبالغون فيما يجري من وقائع والذين يهوّلون فيما يقومون به من تحليل وتفسير.. كلاهما يرتكب خطأ وخطيئة في حق هذا الوطن. إن مصر تتعرض لأزمة ولا تتعرض لكارثة. ونحن وحدنا الذين بمقدورنا أن نجعلها تبقي في حدود الأزمة ولا تتخطاها إلي ساحات الكارثة. نحن وحدنا الذين بوسعنا ألا نجعلها كارثة وأن تبقي إحدي أزمات حياتنا. ونحن بوسعنا أن نجعلها "ذكري" للتكاتف وللوعي للتضامن وللتفكير الإيجابي الخلاق. من الذي يستفيد من العناوين الضخمة الصارخة التي تؤكد أن مصر تعيش في الرعب والخوف والفزع. من الذي يستفيد من جعل الحكومة حائرة وعاجزة عن إدارة الأزمة. من الذي سوف يستفيد من التشكيك في مجموعة عمل إدارة الأزمة!.. لن يستفيد أحد سوي المنتفعين والانتهازيين والنصابين في هذا الوطن. ثقافة الكارثة تولد اللصوص وقطّاع الطرق والمعتدين علي الأملاك الخاصة. فتش في تاريخ المناطق التي ضربها زلزال أو إعصار.. وسوف تري اللصوص يفتشون جثث الموتي!.. وفي مصر.. وفي أجواء الخوف، لا يتورع بعض المجرمين حتي من المهنيين عن استثمار الخوف وتحويله إلي أموال!.. حسنا.. إن هؤلاء الذين يتاجرون في دم الناس الذي كاد يجف بعد أن جفت مزارع الدواجن وخربت البيوت سرعان ما سوف يجدون أنفسهم في عزلة وسوف يرجمهم المجتمع بالإهمال والعار الذي وضعوه فوق رؤوسهم.. سوف يحدث هذا لأن الأغلبية الساحقة من المصريين تحب الوطن ويحبون بعضهم بعضا، وسوف تتجلي مشاعر التكافل والتكاتف حين ينشط الحقوقيون ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات والنساء المتطوعات وكل من هو قادر علي التبصير والتنوير للقيام بدوره.. حين ينشطون جميعا.. ثم تشيع ثقافة المواجهة الشاملة لابتلاء أسقطه الله علي الإنسانية لعلها تجتمع معا ضد عدو فيروس بدلا من ثقافة صدام الحضارات وسب الأنبياء وإشاعة الفرقة بين الناس علي أساس الدين واللون والديمقراطية! إن صناعة الدواجن والطيور في مصر تتعرض للدمار.. وكل المعلومات الطبية تقول إن الدجاج السليم يمكن أكله، حيث إن النار تقتل الفيروس. إذن لا يوجد أدني ضرر في التأكيد لحد الإلحاح الإعلامي علي هذه الحقيقة.. وأن يقوم "بنك الطعام" بشراء كميات الدجاج السليم.. وتقديمها أغذية للفقراء لأنهم بحاجة إليها.. ولأنها سليمة. ليس من المنطقي قط تدمير الطيور السليمة.. والتخلص من الطيور التي هي بكامل صحتها.. وليس من المنطقي قط تشريد مليون ونصف المليون عامل في صناعة استثمرنا فيها 16 مليار جنيه وأغنتنا طويلا عن فرخة الجمعية التي كنا نصطف طوابير للحصول عليها، فإذا هي جافة مجمدة جاءتنا من أوروبا أو أمريكا! إن الأزمة التي تتعرض لها مصر، في إطار الأزمة الفيروسية العالمية، يمكن أن تجعل هذا الوطن معتادا علي الأسلوب العلمي للمواجهة. ولقد أحسنت الحكومة حقا حين اختارت، أن تتحري المصارحة والمكاشفة بدلا من التكتم والإظلام.. والسبب في ذلك أولا أنها لن تستطيع أن تداري.. وثانيا لأنها في مواجهة أزمة بهذا الحجم لن تقدر وحدها علي محاصرة الفيروس القاتل. ولقد أعجبتني صراحة د. حاتم الجبلي وزير الصحة في حواره مع التليفزيون المصري يوم الاثنين الماضي حين استغرب أن يجلس المواطن ليتفرج علي الحكومة وهي تحمل عنه الدجاج النافق. قال "انزل وشيل وضع الطير النافق في كيس بلاستيك.." وقال إن علي الناس أن تشارك. إن مصر ليست مسئولية الحكومة فقط. مصر مسئولية المواطنين والحكومة معا، وعلينا أن نجتاز هذا البلاء بوعي وبحضارة. وأول خطوة في هذا الاتجاه أن يواجه المواطنون الأساليب الرخيصة لاستثمار حفنة من التجار والشركات الانتهازية مشاعر الخوف لدي الناس. إن تجار اللحوم رفعوا الأسعار، وتجار الأسماك رفعوا الأسعار. وأصلا كانت أسعار اللحوم باهظة بالنسبة للسواد الأعظم من الناس.. فالموقف لا يحتمل إرهاق بني الوطن بما يفوق القدرة. ليس هذا وقت البشاعة والجشع والانتهازية. إنه وقت يظهر فيه معدن الإنسان المصري.. وإذا كانت الحروب توحد الناس.. فإن الأزمات الطبيعية تجعل قلوب المواطنين أشد لينا وتراحما. إن الناس مطالبون بمقاطعة التجار الجشعين.. كما أن علينا جميعا أن نواجه خطرا أشد إهلاكا من كل فيروسات العالم.. إنه خطر فيروس الشائعات.. وأخطرها ما رددته مصر كلها علي الموبايلات وفي الشوارع والمصاعد.. لا تشربوا ماء النيل.. كيف؟!.. وبالفعل امتنع الناس.. وإذا بكراتين المياه المعدنية تملأ السيارات ويركض بها الباعة والمشترون! من المستفيد من كل هذه الروح الانتهازية غير تجار المصائب؟! إن ارتفاع أسعار اللحوم والأسماك، سوف يرغم الناس علي مقاطعة التجار الجشعين.