صنع الله ابراهيم: السجن أخطر وأهم تجارب حياتي صنع الله ابراهيم محيط – شيرين صبحي أكد الروائي المصري صنع الله إبراهيم أن السجن كان أخطر وأهم تجربة في حياته، قائلا " كان عمري حينها 20 عاما وكان حولي ناس عظام، وكان هذا مثير جدا ولكن الأكثر إثارة ما تعرضت له شخصيا". وقال: كنت مع شهدي عطية في كلابش واحد لأن حجم يده كبير بينما يدي صغيرة، وأخذونا للمعتقل وتعرضنا للتعذيب، وكنت مع ثلاثة أخرين نشاهد ما يحدث من تعذيب وكنت أرفعهم جسدا، ثم دخلنا العنبر ونحن مذهولين مما رأيناه وعرفنا بعدها أن شهدي مات.. وفي اليوم التالي أخذونا نحن الأربعة الذين لم نعذب بشدة ونظروا إلي أجسادنا واختاروا منا اثنين لنذهب إلي النيابة ونقول أن شهدي جاءت له أزمة قلبية ومات في الطريق قبل الذهاب للمعتقل! سألت زميلي بصوت منخفض ماذا سنفعل؟ وكان صيدلى عسكري فقال أنا سأخبره أن شرفي العسكري يمنعني من فعل هذا، فقلت له "طب وأنا أعمل إيه؟" وكنت حينها إرادتي مشلولة وأتصور الآن أنني كنت سأذهب وأقول مثلما طلبوا فقد كنت في حالة من الشلل الكامل عصبيا ونفسيا وكل شىء.. لكن في هذه اللحظة دخل مسئول في وزارة الداخلية وقلب الأمر وتم التحقيق في الموضوع وتوقف التعذيب وهي قصة معروفة. وقال صنع الله في ندوة "أدب السجون" التي نظمها وأهداها له مركز البحوث العربية والأفريقية، أن "هذه التجربة جعلتني أفكر كثير جدا واتساءل إلي أي مدي يمكن أن نقاوم ونصمد، وبدأت أشعر أن هناك شكل من الأشكال المهمة للتعبير عن النفس وهو الكتابة، وبدأت أشعر أني سأكون أكثر حرية لو كتبت فأقول أشياء لا يستطيع الإنسان أن يقولها، وكان في ذهني أن أحكي لحظة بلحظة عندما مات شهدي وبدأت أفكر أن ممارسة الكتابة هي الشىء الذي يمكن أن اركز عليه". وأوضح أنه في هذا الوقت كان هناك عدد كبير من الكتاب بالسجن وكان هناك اهتمام شديد جدا بالنشاطات الثقافية فكانت هناك مجلات حائط وكتب وكان هناك عدد من المهتمين بالإنتاج الثقافي، وفي هذا الإطار كان الجو مشجع لأي شخص ليفكر ويكتب ويقرأ، ولكن هذا في فترة لاحقة فقد انتظرنا عامين دون أن يستطيع أحد القراءة وكنا نقرأ فقط القرآن والإنجيل وهما المسموح بهما. الروائي المصري أضاف : بدأت أحاول أكتب وكنا نحضر ورق شكائر الأسمنت ونقطعه أجزاء، وعندما تحسنت الظروف أصبح هناك تهريب للورق والكراريس ثم تهريب لورق البفرة. معضلة الكتابة "الموضوع بالنسبة لي لم يكن سهلا فأنا أريد ان أكون كاتبا ولكن ماذا أكتب وكيف ولمن، واذكر انه من عام 1959 وحتي 1962 كانت فترة حية جدا وبها متناقضات كبيرة جدا فمثلا كان هناك إدانة لانصياع الفرد كليا خلف الإتحاد السوفيتي، وكانت الصحف متبنية فكرة الواقعية الإشتراكية ودور الفنان وضرورة التزامه بالواقع". جانب من الندوة صنع الله قال: كنت أكتب يوميات صغيرة حول موضوع واحد وهو الكتابة نفسها يعني كيف أكتب ومشاكل الكتابة، ومررت بفترة حيرة شديدة جدا، وكان أول ما كتبت حول أن دور الفنان في المجتمع آلا يتناول أفكار مجردة وليس فقط توصيف تغيرات المجتمع بشكل سطحي وإنما التزامه بمحاولة تغيير الواقع .. لكن هذا بالنسبة لي لم يكن كافيا . وبعد عام ونصف كتبت عن حق الكاتب في التعبير عن نفسه بصرف النظر عن وضعه الاجتماعي أو موقفه السياسي وفي نهاية الأمر إذا كان الفنان جيد وعلي درجة عالية من الوعي والثقافة فهو بشكل أو بآخر يستطيع أن يعبر عن الواقع الإيجابي للمجتمع. ثم كتبت أن كل مدارس الفن سعي متواصل للوصول إلي الحقيقة والبحث عن أشكال جديدة. وأوضح أن ما تبقي من أعمال تولستوي - الذي كتب أشياء رائعة أدبية وتعليمية- هو أدبه الذي لم يكن موجها ونابعا من رؤية واسعة ليست خاضعة لإلتزام معين. مضيفا أن في هذه الفترة كان هناك يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي وكانوا يكتبون ما يشبه الواقعية الإشتراكية بمعني الالتزام بحياة الناس البسطاء، وكانت هناك الرؤية الرومانسية فمثلا الشرقاوي الذي جعل الفتاة الجميلة بطلة رواية "الأرض" تتزوج من عامل كهل. الصراع الموجود بين الشيوعيين فيما بينهم ذكره صنع الله إبراهيم موضحا أنه كان عضو في منظمة "حدتو" الشيوعية، وقبل السجن مباشرة تعرضت "حدتو" لنوع من التآمر لتصفيتها. في مواجهة هذا كان هناك خلاف سياسي و"حدتو" أوصلته إلي أقصاه فقد كان هناك تقييم لجمال عبدالناصر وتقييم السلطة، في الوقت الذي كان التيار الأول يطالب بالديمقراطية كانت "حدتو" تطالب بتأييد عبدالناصر. الشيء ونقيضه وناقش الكاتب تأثير هذا عليه قائلا "كنت في السجن بواسطة نظام أؤيده تأييدا كاملا ومع ذلك هذا النظام يرتكب فظائع التعذيب وغيرها، وفي سنة 1960 كان هناك حملة بشعة في الجرائد تطالب بقتل الشيوعيين.. وكان تأثير هذا نوع من التناقض بين ان هناك نظام يفعل يرتكب كل هذه الجرائم ومن ناحية أخري يقوم بأشياء رائعة من بناء للسد العالي وباندونج وعدم الانحياز وغيره، وكان التقييم لماذا يمكن ان يحدث هذا؟". وأضاف: في هذه الفترة قرأت مذكرات للشاعر يوشينكو الذي نشر قصة حياته وقال أن كثير من الشيوعيين المخلصين كانوا يعدمون بأوامر من ستالين وقبل أن يعدموا يكتبون علي جدران الزنازين بدمائهم "عاش ستالين"، وبعدها عرفت أن أحد الأشخاص وهو ذاهب إلي الإعدام قال للحارس "يا رفيق أرجوك دعني فقط أكلم ستالين" وشخص أخر بعث برسالة يقول فيها "أنا أحبك وأحب الحزب.. وداعا!". جمال عبدالناصر .. وأشار صنع الله إلي فيلسوف ماركسي قال أن من حق الفنان أن يعبر عن نفسه بكل حرية وصدق ولكن يجب أن يختار الجوانب الايجابية من الواقع، "كان تصوري وغيري كثيرين أن أهم شىء أن يكون الكاتب أمين لما يشعر به بصرف النظر عن هذا الشىء، ولينين كان له جملة مشهورة جدا أنه "يجب أن نحقق أقصي حرية ممكنه للخيال" فكان مدركا لأهمية الحرية الكاملة للخيال والإبداع". مذكرات يوشينكو كان بها نفس الاتجاه فكان يقول يجب أن يعطي الفنان نفسه للحقيقة وكان يتهم كتاب الإتحاد السوفييتي أنهم يزيفون الواقع ويقدمون أسطورة غير حقيقية. في هذا الوقت كانت المؤسسات الأمريكية والإنجليزية تستغل هذه المشكلة استغلالا كاملا وظهرت مجلة انجليزية وظهرت لها نسخة عربية بعنوان "حوار" كانت مكرسة للدفاع عن وجهة النظر الأمريكية والانجليزية والهجوم علي السوفييت والماركسية بشكل عام. في البداية كنا ننخدع قليلا ونتأثر بكلام جميل حول الحرية وحرية المثقف وغيره، ولكن بعد عشر سنوات اعترف محررو المجلة وقالوا "أننا كنا نكذب من أجل الحقيقة!" وأوضح صنع الله أن هناك عددا من الكتاب الذين انخدعوا بهذه الصحيفة والذين كانوا شيوعيين في الأساس، حيث نجحت الآلة الأمريكية أن تقنعهم بأن هناك قهر للحرية والثقافة في الإتحاد السوفيتي، وقام أربعة من الكتاب واشتركوا في كتاب "الرب الذي سقط". وأضاف: وصلنا إلي نقطة الصدق أو الحقيقة وكل منا يراه بزاوية مختلفة، وكتبت في يومياتي كلمة لهيمنجواي في كتابه "تلال أفريقيا" وكان قبلها من القائلين أنه لابد للفنان أن يكون صادقا وألا يكذب أبدا، وكان في هذا الكتاب صادقا وقد كتب ما رآه في أفريقيا ولكننا بعد الانتهاء من الكتاب لا نجد أي شخص أفريقي أو أي اشارة لحياة الافارقة ولكن يدور الكتاب حول مجتمع البيض الموجودين في أفريقيا وليس أفريقيا الحقيقية !!. محفوظ 1964 قال أن الصدق أهم شىء للكاتب واعتقد – والحديث لصنع الله ابراهيم - أن محفوظ لآخر يوم في حياته كان صادقا فما شعر به وفكر فيه عكسه في أعماله ، ولكن إلي أي مدى هذا الصدق يعبر عن الحقيقة الكلية أو الواقع الشامل؟ هذه مسألة محل نقاش. المثقف الشنطة 1964 حدث الافراج العام وخرجنا وكتبت أول رواية "تلك الرائحة" والتي أخذتها من كتابة يوميات في المعتقل وأخذت مقتطف من كلام لجيمس جويس "أنا ابن هذا المجتمع وابن هذه الحياة وسأعبر عن نفسي كما أنا" وكان هذا شعاري أن أعبر عن حياتي وكنت حينها ملاحقا بالبوليس والمعتقل وهناك أحلام بها تعذيب وإشارة للتعذيب، فكان هذا واقعي. التطورات اللاحقة من النكسة ثم فترة حكم السادات وغيرها كان الملفت فيها وجود نوع من الجمود والركود والدهشة من جانب المثقفين المصريين وحالة ترقب فلا يصدقون ما يحدث ولا يستطيعون أن يتكلموا وبدأ يحدث تغيير في المجتمع وبعد أن كان التفكيرفي الازدهار الجماعي أصبح التفكير في الازدهار الفردي، وظهر نوع من المثقفين الذين يطلق عليهم "مثقف شنطة" يذهب مؤتمرات هنا وهناك وظهرت صياغات وكتابات صوفية. img title="رواية " height=200 src="http://10.1.1.37/mi/fileimages/2009/file244648/1_413_1145_9.jpg " width=150 align=left ? تلك الرائحة ?? رواية في هذا الوقت كنت ابحث عن الشكل الذي يساعدني عن التعبير ووجدته في الصحف فمنذ أيام المراهقة كنت أهوي تقطيع صور الجرائد وكان يحدث أنه في خلف هذه الصور توجد موضوعات سياسية ومع تطور وعيي بدأت اهتم بالموضوعات السياسية وشعرت أنه من الممكن عمل خريطة فنية من موضوعات الجرائد بحيث تعبر عن الواقع الموجود وجاء هذا في رواية "ذات" وكانت فكرتها في البداية أننا ليس لدينا بطلات في الأدب وفكرت انه ممكن تكون امرأة تقود منظمة وتعمل مداخلة في التلفزيون بحيث يمكن للرئيس أن يتحدث فتقل له أنت كاذب مثلا، لكنني لم استطع أن أعمل هذا، وخرج العمل بنوع أخر للسيدة المصرية المستضعفة التي ينتهي بها الأمر أن تعتزل المجتمع. وأضاف صنع الله: عالجت المشكلة في رواية أخري هي "وردة" وكنت في عمان وتذكرت أنه كان هناك عشر سنوات علي ثورة ظفار وكان في قيادة الجبهة بنات وبالتالي كانت هناك فرصة للحديث عن شخصية واقعية حقيقية وهي "وردة" التي كانت موجودة في قيادة المنظمة وتولت المسئوليات وحملت سلاح. وقال: تكونت في السجن من خلال اكتشاف الناس والنماذج التي تعرفت بها هناك، وهناك نقطة هامة في النظرة للانسان فقد يكون مناضلا وله تاريخ وكل شىء ومع ذلك ربما تكون له بعض التصرفات الصبيانية وهذا لابد أن يدخل في إطار النظرة الشاملة للشخص لا تعيبه ولا تقدسه، فلا يجب تقديس المناضلين ونضعهم في مصاف سامي وكأنهم معصومين فنصدم عندما نعلم أن له تصرفات إنسانية عادية.. الإنسان لابد أن يؤخذ بشكل كامل. واختتم صنع الله قائلا "حتي اليوم لا يوجد تغيير كبير في حياتي فمازلت متأثرا بتجربة السجن ومازلت اعتقد انه واجب الكاتب أن يعبر عن الحقيقة والواقع".
اقرأ أيضا: رضوي عاشور: كتابات المعتقلين صفعة علي وجه الديكتاتورية