"إذا نَفَرَ الشبابُ من شعر المتنبي وأبي تمام, بل من أسلوب القرآن الكريم, وانصرف عنه ثم عجزَ عن تذوقه وفهمه, فقد حكمنا على تراث الأدب العربي بالكساد ثم بالموت, وقد انقطعت صلة الأجيال المقبلة من أبناء العرب بقديمهم. وإذا انقطعت صلتنا بقديمنا أمكن أنْ نُقَادَ إلى حيث يراد بنا وإلى حيث لا تجمعنا بعد ذلك جامعة تجعل منَّا قوة تُخِيفُ الكائدين وتَأْبَى على الطامعين". هكذا أكدت الدراسة الأدبية التي حاز عنها الشاعر إيهاب عبدالسلام، درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف الأولى، فبراير الماضي، من كلية دار العلوم، فيما أشرف عليها الدكتور عبداللطيف عبدالحليم، الأستاذ بقسم الدراسات الأدبية بالكلية، وناقشها كل من الدكتور عبدالرحمن الشناوي الأستاذ بقسم الدراسات الأدبية، والدكتور عبدالمعطي صالح رئيس قسم اللغة العربية بكلية الألسن . الدراسة تناقش "تطور مفهوم القديم والجديد في الشعر العربي الحديث في مصر حتى عام 2000" ؛ فقد لاحظ الباحث كل تغيير في الشعر العربي إنما يأتي بدعوى التجديد، وكأن ذلك التجديد ليست له حدود، وكأن شعرنا العربي فن تجريبي، أو تجربة لم تكتمل، وليس فنًّا محكمًا في بيانه وبنيانه. ويستطرد بقوله : تبلورت فكرة هذا البحث من مطالعتي للكتابات النقدية، ومشاهدتي بعض الندوات والمهارج الشعرية، حيث لاحظت أن مفهومي الجديد والقديم قد اختلطا لدى الناس، وأصبحت سمة القديم تطلق من باب التهوين على شعر كثير جيد، بينما يوصف بعض ما لا يمتّ إلى الشعر بصلة بأنه شعر جديد، وكأنّ التخلي عن الأوزان علامة على الجدّة والحداثة، بينما الشعر الحقيقي صار قديمًا غريبًا بين أهله. لذلك أراد الباحث إبراز مفهوم القديم والجديد لدى جيل الرواد وما تلاه من عباقرة الأدب وأساطين الإبداع نقدًا وشعرًا على السَّوَاء. متتبعا كتابات وآراء كبار النقاد، متبعًا المنهج الاستقرائي، لإبراز مفهوم الجديد في معاييرهم النقدية، ورؤاهم الفنية. الدراسة مقسمة لأربعة فصول وخاتمة بعد المقدمة والتمهيد. وناقش الباحث في التمهيد ماهية الشعر بين الطبع والصناعة؛ فحَسْم ذلك الأمر يتعلق بقضية التجديد، وانتهى إلى أن الشعر يكون على مرحلتين؛ الأولى لا صنعة فيها مطلقًا وإنما هي حالة تغلِب الشاعر، ثم يمررها على عقله ووجدانه ويجنبها ما يعيبها، وهذا الجانب هو ما يتعلق بالصناعة، وتلك المسافة بين غلبة الشعر وتقويم الشاعر ليست ثابتة، بل إنها تتسع كلما كان الشاعر نظَّامًا، وتضيق حتى تكاد تختفي تمامًا كلما كان الشاعر مطبوعًا، وهذا ما انتهى إليه الباحث. المبحث الثاني يناقش فيه الدكتور إيهاب (مفهوم القديم والجديد قبل العصر الحديث) وقد رصد أن القدماء كانوا ينظرون إلى الشعر العربي نظرة تقدير واحترام، لا تسمح بالهدم أو التشويه، واهتموا ليس فقط بالبيت مجملًا ولا بالقصيدة كاملة، وإنما بالمفردة، فتَتَبَّعوا أوصافها ومناسبتها وقوتها وجزالتها وضعفها.. وهذه هي الحدود التي كان يدور فيها مفهوم الجديد لديهم، وهذا هو مناط اختلافهم ليس أكثر، فلم يتغير الشعر في موضوعه ولا في صورته ولا في نوعه. ولم يتغير في لفظه ومعناه إلا تغيرًا قليلًا جدًّا. بقيت القصيدة كما كانت معتمدة على وحدة القافية والوزن غير معنية بوحدة المعنى، وبقي موضوع الشعر كما كان مدحًا وهجاءً ورثاءً ووصفًا وغزلًا، وإنما تجددت هذه الموضوعات دون أن تتغير. ولم يكن تجددها جوهريًّا، وإنما هو التجدد الذي يكفي ليُشعر بالفرق بين عصر وآخر. وتناول الفصل الأول (انتشار مفهوم القديم والجديد في العصر الحديث) وقد رصد الباحث فيه إرهاصات التجديد قبل بداية القرن العشرين حيث ثار جدل واسع في الربع الأخير من القرن التاسع عشر حول مفهوم الشعر، فكان إرهاصًا لفترة خصبة من الشعر والنقد والمدارس الأدبية، بدأت مع القرن العشرين، فكانت بدايات ذلك القرن أوفر حظًّا من نهاياته. فنشأ جيل جديد ونزعة جديدة. رصدت الدراسة ملامحها إجمالا متخذا الشاعر أحمد شوقي نموذجًا بين التجديد والتقليد.ثم عرض الباحث آراء الأستاذ الرافعي والأستاذ العقاد والأستاذ سيد قطب والدكتور طه حسين في القديم والجديد. أما الفصل الثاني فقد تناول مفهوم القديم والجديد في الشعر لدى مدرسة الديوان مبرزًا ملامح التجديد التي نادت بها، وما أضافته لمفهوم الجديد. وأبرزه موضوع الوحدة العضوية مناقشًا سمات تلك الوحدة وأهميتها وفضل مدرسة الديوان على النهضة الشعرية الحديثة وقد اتضح أن مفهوم الجديد في ظل الرؤى العميقة التي رسخها شعراء الديوان ظل يدور في فلك القصيدة العربية دون أن يدعو إلى التخلي عن الوزن، وقد أثْرت مدرسة الديوان الشعر بمفاهيم جديدة لم تزل تسري في روحه إلى اليوم. وفي الفصل الثالث تناول مفهوم القديم والجديد في الشعر لدى جماعة أبولّو، وقد رصدت أن تلك الجماعة من خلال إبداعها ومجلتها قد نادت بتجديد شمل المعاني وتنويع الأوزان.. وأحيانا شابه بعض الشطط فدعا إلى التخلي عن الأوزان، ورغم ذلك لم يترسخ من مفهوم الجديد لديهم إلا ما كان منضبطًا في سياق الشعر العربي ملتزما بموسيقاه، وذهبت جميع الدعاوى الأخرى أدراج الرياح. وفي الفصل الرابع تناول مفهوم القديم والجديد في ظل انتشار شعر التفعيلة وما يسمى قصيدة النثر، وناقشت فيه تجربة الشعر المرسل نموذجًا سابقًا. ثم انتشار شعر التفعيلة وما يسمى (قصيدة النثر) بدعوى التجديد. وتفنيد الأستاذ العقاد لذلك. ثم فوضى مصطلح الحداثة. وناقشت تأثر شعر التفعيلة بالشعر الأجنبي. وناقشت أثر دراسة سوزان برنار في انتشار ما يسمى قصيدة النثر، ودَوْرَ الحراك المجتمعي في تشكيل مفهوم القديم والجديد في الشعر في تلك المرحلة المتأخرة من القرن العشرين، وطرحت آراء الداعين إلى التحول إلى شعر التفعيلة بدعوى التجديد مفندا إياها، كما رصد الباحث تردد النقاد حول المفهوم الجديد للشعر. ثم عبور ما يسمى (قصيدة النثر) على جسر قصيدة التفعيلة. وختمه برؤيةٍ متوازنة بين مفهومي القديم والجديد. وقد اتضح في البحث أن الدعوة لنثر الشعر، قد بدأت منذ وقت مبكر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأول من دعا إليها هو الأستاذ إبراهيم اليازجي، ثم عزف على وتره بعض الأدباء، بدعوى تعريف الشعر، ومن خلال التعريف يهملون الوزن ويَعُدونه ليس شرطًا، معتبرين أن ذلك هو الفهم الجديد خروجًا من فلك الموزون المقفى، الذي دارت حوله الأفهام القديمة في تصورهم، ولكن لم تلق هذه الدعوات تأييدًا فعليًّا ولا تطبيقًا عمليًّا على نحو واسع إلا في النصف الأخير من القرن العشرين حيث توافر لها المُناخ المناسب، وتبني بعض النقاد لها، وقد تزامن هذا مع حراك مجتمعي نحو تحول واسع في كل شيء اعترى المجتمع المصري في أغلب مناحي الحياة، حتى تغلَّب المظهر على الجوهر، واهتم الناس بالشكليات دون الأساسيات. وهكذا توصل البحث إلى أن ما يسمى بقصيدة النثر ليست وليدة آخر القرن العشرين ولكنها بدأت كفكرة وصدًى لترجمات الشعر الأجنبي. قبل أن يبدأ ذلك القرن وظلت تصارع من أجل الحصول على هوية الشعر العربي ولكنها لأسباب فنية لا تعد من مفهوم الجديد رغم صراع المدافعين عنها. وفي الربع الأخير من القرن العشرين نستطيع أن نقرر أنها ما غلبت وإن كانت تغلبت، وقد انتشرت وما تأطَّرتْ. وتوصل البحث إلى أن حركات التجديد كانت مبنية على سابقتها، فقد تمثَّلَ البارودي الشِّعر العربي وأعاد إحياءه، وتمثَّل شوقي ما أبدعَهُ البارودي وألبس الشعر زيًّا جديدًا فربطه بأحداث المجتمع حوله، وكذلك فعل حافظ إبراهيم وغيره، ثم انطلق الأستاذ العقاد ورفاقه بالشعر في اتجاه جديد دعا إلى الوحدة العضوية والتركيز على الصدق الشعوري والمعاني الذهنية بعيدًا عن الصَّنْعة والارتباط بالأحداث العارضة، وقد استوعب هو ورفاقه ما سبقهم، ثم استفادت جماعة أبولُّو من هذا كله وأضافت تنوع الأوزان والقوافي واستخدام الألفاظ والكلمات الرقيقة، والتحليق بالشعر في عوالم من الخيال، أما ما يسمى بالشعر الحر أو قصيدة النثر فلم يستطع أن يوثق صلته بهؤلاء الروّاد، ولا أن يثبت نسبته إلى الشعر العربي على وجه اليقين، ولا حتى على وجه الشك، وإن بقيت منه نماذجُ تضاف إلى أساليب البيان العربي ولكن ليس تحت مسمى الشعر. غياب مفهوم التجديد يقول الدكتور إيهاب عبدالسلام أن مسألة غياب مفهوم التجديد الشعري ومحدداته ليست بالبساطة ولا بالهوان الذي قد يظنه البعض، فالقضية لا تتوقف عند حدود بحور شعرية يتم تجفيفها؛ إنما هي أخطر وأعمق من ذلك بكثير، إن خطورة التخلي عن الشعر العربي أنه يؤدي –كما يرى البعض- إلى "تنشئة جيل جديد من أبناء العرب لا يستطيع أن يتذوق أساليب البيان العربي وموضوعاته. وإذا نَفَرَ الشبابُ من شعر المتنبي وأبي تمام, بل من أسلوب القرآن الكريم, وانصرف عنه ثم عجزَ عن تذوقه وفهمه, فقد حكمنا على تراث الأدب العربي بالكساد ثم بالموت, وقد انقطعت صلة الأجيال المقبلة من أبناء العرب بقديمهم. وإذا انقطعت صلتنا بقديمنا أمكن أنْ نُقَادَ إلى حيث يراد بنا وإلى حيث لا تجمعنا بعد ذلك جامعة تجعل منَّا قوة تُخِيفُ الكائدين وتَأْبَى على الطامعين". ويستطرد بقوله : لا أكون مبالغا إذا قلت إن الحفاظ على الشعر العربي، وتحديد مسار تجدده، لهو أمر يتعلق بأمننا القومي، وإن كان ذلك على المدى البعيد. وقد وجدت أن لمفهوم الجديد والتجديدِ حدودًا فاصلةً بين التطوير والهدم، وفكرة التطوير مقبولة، وفكرة الهدم مرفوضة مهما تسلَّحَتْ بحجج واهية، أو تبَنَّتْها أسماء كبيرة، وكما يقال: "الفكرة لا تُسمَّى بأسماء الناس، وقد تكون لألف سنة خلت ثم تعود بعد ألف سنة تأتي، فما توصف من بعدُ إلا كما وصفت من قبل ما دام موقعها في النفس لم يتغيَّر، ولا نظنه سيأتي يوم يُذكر فيه إبليس فيقال: رضي الله عنه".