"جمل يحمل جدرانا"، يرقص متألما "رقصة وحيدة" ، في "غروب" الدنيا يحاول الابتسام رغم أن لا شيء يسمع سوى "صرخة الشارع المظلم"، يفر للنجاة صوب "الممر الضيق"، يحاول "فتح عينيه"، لكن" النوافذ مغلقة"، لقد فقد العالم كل شيء وصار ك"أجساد بلا رؤوس" في "موكب" " الموت الأول"، تغرب عن وطنه لعله يجد وطنه السليب هناك ، فوجد "الكفيل" المذل ، فانسالت الذكريات مع "جنية" الحنين للماضي الجميل ! إنها معاناة الإنسان العربي مع واقع أليم، فجنود أمريكا يثبتون علم بلادهم فوق أشلاء الأبرياء في العراق وسوريا ، والقدس تدنس بلا هوادة ويجري تهويدها، تصرخ الشعوب وتستجير بحكامها الذين يمارسون هواية الفرجة والشجب . لكن المجموعة القصصية الاولى للأديب أحمد حمدي الأشهب لا تتوقف عند الهم العربي العام، لكنها تنساب ليوميات إنسانية مؤلمة، فظاهرة عقوق الأبوين والأبناء وسطوة الفقر وتردي سوق العمل هموم تؤرق الإنسان في كل بقعة من المعمورة وتزداد حدتها في بلاد العالم الثالث . وقد احتفل ملتقى السرد العربي مساء امس بمقره بالأديب حائز جوائز قصور الثقافة ومجموعة "عصير الكتب" وتنبأ له بأن يكون "يوسف إدريس عصره" وهو الأديب الذي نهل من نبعه القصصي الرائد في بدايات حياته. أحمد حمدي الأشهب، يعمل باحثا قانونيا بمحافظة الجيزة، وينشط بمجالات الأدب والصحافة وحماية اللغة العربية، مارس هواية الأدب منذ صغره كما أخبرنا ، كما انه يستعد روايتيه "همس الأصابع" و"أنقلورة" ، فيما صدرت باكورة أعماله القصصية "الممر الضيق" عن دار يسطرون. يقول الدكتور حسام عقل، الناقد البارز ومدير الملتقى ، أن الأشهب يصوب القصة كرصاصة تصيب هدفا سريعا، وهو يغترف من بلاغة المقموعين في بلادنا . وقد أصاب الأديب واخطأ، وكانت أبرز مشكلات المجموعة هي الجنوح أحيانا للتقريرية والمباشرة، والأخطاء النحوية المتكررة . وحين تحدث عن قصة "جمل يحمل الجدران" ترى مندوب المبيعات الذي يعاني القهر حتى إنه حين يقتص من مديره يكون هذا في أحلامه فحسب، لقد تذكر منزله المتهالك المتأهب للسقوط والأفواه التي نست مذاق اللحوم واكف الدائنين التي تدف بابه ليل نهار، فقرر ألا يجاهر بمعارضته، وأن يعود للساقية مرة أخرى! قصة "غروب" تنتمي ل"أدب الطفولة" حيث الإحساسات الطفولية ، انت أمام بطل يعمل مهرجا أمام أرجوحة يلهو بها الأطفال ويسعدوا، لكنه وللمفارقة لم يعرف هذه السعادة يوما بطفولته، وفي كل مرة يرقب حنان الأمهات وتدليلهن لأبنائهن، يشعر بغصة من ذكريات مؤلمة تعتصره حين كان طفلا يتسلل للسيرك لمشاهدة ما يبهجه ، برغم توبيخ أمه الجارح، ولكنه كان يفشل في تلقي ربتة حانية على كتفه كتلك التي تصنعها الأمهات مع اطفالهم . يتوقف "عقل" فيؤكد أن الأشهب يمارس التجريب في فضاءات القصة المفتوحة، كما فعل سلفه يوسف إدريس.. كما أنه لا يكتب بعشوائية وإنما بخطة محكمة تجعلنا نعرف أن ما يقوله فنا صادقا . وعلق "عقل" على تبني ملتقى السرد للمواهب بدون عقدة السن، وهو ما أكد عليه أيضا الشاعر إيهاب عبدالسلام، ودليل ذلك أن صاحب هذا العمل يقل عمره عن الثلاثين ولكنه كتب ما يستحق الجلوس لقراءته وتأمله. في قصة "لا شيء" ستجد أدب يهتم باليوميات ويسمى أدب الشذرات، وستقرأ مطاردة المحبوبة المشتهاة، من الحبيب الفقير، قليل الحيلة، والذي يشاهد صعودها لسيارة الثري ، زوج المستقبل. القصة التي تحمل المجموعة اسمها "الممر الضيق" تشعر بحنين لفكرة البطولة، حتى لو متخيلة، فهذا الطفل الريفي يرى العربة الكارو المنغمسة بالطين ويجاهد لتحريكها ، وهي قصة شبهها النقاد بحالة الربيع العربي وسعى الشباب لانتشال بلادهم من الاستبداد الذي يمثله الشيخ القابع في أعلى العربة يقودها للغرق في الترعة . "النوافذ المغلقة" قصة تهزك من الأعماق، فهذا "حسام" يأتي من بلاد النفط حيث يعمل، ليطمئن على والدته التي أقعدها المرض ونست كل شيء إلا صورة ابنها الغائب، حتى إنه حين يحاول الحديث معها يجدها لا تتذكر شكله وتسأله عن ابنها ! ويعلق "عقل" على حسن ختام قصص المجموعة، ففي هذه القصة سنجد الممرضة تحدث الأم بأن ابنها قد عاد، فتنظر لها ثم تذهب في سبات عميق ! وفي "الموكب" ستتالم ايضا لأحلامنا المجهضة قبل أن تولد ،فهذه سيدة فشلت هي وزوجها في ان ينجبا طيلة 15 عاما، ولما رزقهما الله بحمل وراحت تضع وليدها، إذا بموكب مسئول كبير يمر، فيمنع سيارتها من اختراق الزحام ويضيع المولود ! هنا يرى الدكتور حسام عقل استخدام للكثافة الغنائية ، حين يكتب الاديب "كان الرعد يضرب في السماء كانما يصرخ في وجه الضابط والبرق كانما يصور المشهد للتاريخ " قصة "الكفيل" فيها استعادة لرفض الخضوع لنظام مذل للإنسان المصري في بلاد الخليج، وكان الراحل عبدالسلام العمري بين أبرز من حذروا من مغبة تلك الظاهرة ووجوب تغييرها، فعادة يكون الكفيل متحكما بأنفاس من يعمل تحت غطائه ببلاد النفط فلا يتحرك ولا ينطق ولا يفعل إلا باذنه وإلا أعاده من حيث جاء واحيانا ومع غياب وازع الضمير عند البعض يدخل العامل السجن لشهادة الكفيل ضده . وقد علق الناشر مصطفى الفرماوي على المناقشة، مبديا سعادته بالاهتمام بفن القصة القصيرة، والذي يحتاج لمهارة من الأديب تفوق كتابة الرواية، كما أنه يعاني في عالمنا العربي من ضعف الإقبال عليه مقارنة بالرواية ، ولهذا فإن عقد الأمسيات الثقافية تساهم في رفع نسبة الوعي بهذا الفن الصادق . بينما عددت الأديبة د. إيمان الدواخلي عددا من الجوانب التي وقع فيها الأديب، ومنها ضرورة التحدث على لسان الأبطال مستعينا بثقافتهم وأعمارهم ، فالطفل لا يتحدث كما البالغين، وعالمه مختلف بتفسيره للأشياء ، كما تحرص المجموعة على تمييز الخير عن الشر كأبيض وأسود، بخلاف السلوك البشري المنحاز غالبا للود الرمادي، كما عابت على بعض القصص التقريرية والنهايات السردية المباشرة . وبرغم ذلك أكدت الدواخلي أن تلك المجموعة كانت من أمتع ما قرأته خلال عام . فيما ذهبت د. عبير عبدالله إلى أن المجموعة متميزة فنيا، وبدا ذلك بحسن الاستهلال ببعض القصص فهناك مدير ينادي بأول قصة "جمل يحمل الجدران" على الموظف بقوله "انت يا أبو بدلة .. أيوة .. منظرك مقبول" ، أما قصة "غروب" فأعطتها اسم "صانع البهجة" في إشارة للبطل الذي حرم السعادة، وبدا الرمز واضحا في قصة "صرخة بالشارع المظلم" والذي تنهش فيه الكلاب قطة وادعة تستغيث ولا مجيب، فقط هناك السيد الذي ينظر إليها من شرفته فلا يجد من ينقذها، وحين ينادي على طفل يمر بالشارع يجده مشغولا ببالونته ويمر الوقت ولا يعرف متى صار هذا الطفل شابا، فهو تعبير أدبي عن تعاقب الأجيال في ظل انتهاك القدس . أما قصة "الممر الضيق" فنظرت لها الأديبة كتعبير عن عدم اكتراث الشباب بالمناصب واستئثار الشيوخ بها . من جانبه، عاب الشاعر السعيد عبدالكريم على الكاتب اطنابه وإطالته ببعض القصص بالمجموعة ، ولكنه أبدى إعجابا كبيرا بالمجموعة ككل والقصة التي تحلل وضع القدس والتي تفترس ولا مغيث إلا الله، أما "الممر الضيق" فنظر لها كتعبير عن إخفاق ثورات الربيع العربي التي حسنت من شروط العبودية ولم تمنح العرب حريتهم . أما الشاعر الدكتور إيهاب عبدالسلام، فأبدى سروره الكبير بتلك المجموعة والتي تبث أملا في نفوسنا بإبداع يقود النهضة، وشعر أن قصص المجموعة كلها تحكي قصة الممر الضيق الذي يمر به العرب، وقد كتب الأديب مستلهما المدرسة الواقعية، والتي تتجه للسحرية أحيانا والفانتازيا كما ذهب في "أجساد بلا رؤوس" والتي تصور طفل يدخل غرفة العمليات لإجراء جراحة ويغيب في البنج ليجد نفسه في مغارات وحشية لآدميين مشوهين ، كما ذهبت الأديب أحيانا للقصة اللغز والتي تضطر لقراءتها عدة مرات لتستوعب مراميها مثل "رقصة وحيدة" حيث يضيء شبح لشمعة فيرقص الزوجان على وهجها ثم تعود لتختفي بلعبة ترمز لغياب الدفء في البيوت . من جانب آخر، عبر إيهاب عبدالسلام عن إعجابه بالاستخدام المحكم للجمل والعبارات بالمجموعة، فنادرا ما جاء تشبيه أو وصف غير دال، فالكرسي المعوج بقصة "صرخة" رمز كرسي السلطة المستبدة، والبالونة والكلاب كلها رموز . ونصح الأديب بألا يتعجل في الكتابة ليكتب لأدبه الدوام . والمجموعة كما يراها الروائي زكريا صبح سياسية بامتياز؛ إذ تفضح السلطة الأبوية وسلطة المال، أما الأديب فيتتوغل بالنفس الإنسانية ويذهب لعالمها الواقعي والرومانسي الكلاسيكي ، كما استخدم الثنائيات بتضادها لتتميز ، فهو يتحدث عن أنفاسه تتصارع فيشعر بالهبوط فيما ذكرياته تبدأ بالصعود في احدى القصص . وفي قصة "الممر الضيق" يتمنى زكريا صبح لو أن البطل قد أزاح الكهل الذي يمتطي الكارو في لامبالاة ويتسبب بغرقها، واعتبر أنه كسر تابو الدين في قصة "الموت الأول" التي يتخيل فيها البطل يوم القيامة وعرض جرائم حياته على شاشة بللورية أمام العالم، وهو الذي خان زوجته وأنجب طفلا لم يعترف به ! وقد وضع تلخيصا لقصص المجموعة في ربط بين عناوينها . وركز الشاعر سلطان ابراهيم على بعض قصص المجموعة، خاصة تلك التي يجري بها هجوم مباغت على احدى عربات المترو، فإذا بالجنود الأمريكيين يأمرون الجميع بخلع ملابسهم، دلالة على تخلي العرب عن هويتهم وارتداء العلم الأمريكي ، فيما السيدة تضع مولودا مشوها، ولكن وليدها الجديد (رمز الأمل) يأتى معافا .