من حصار إلى حصار- هذه حالة الأمة... دول يحاصرها أعداؤها وشعوب يحاصرها حكامها، وحكام هرمون يحاصرهم الشيب والخرف والخوف، فيحتمون بأعدائهم طلبا للبقاء ولتأهيل أولادهم الأكثر دهاء ومكرا لتسلم مقاليد الحكم العتيد.
من حصار شامل على العراق لمدة ثلاثة عشر عاما أهلك الزرع والضرع وفرّغ البلاد من معنى الدولة فتحول الحكم إلى سيف قاطع يزيد المحاصرين موتا وجوعا، وحصار جزئي موجع فرض ظلما على الجماهيرية ولم يرفع إلا بعد التسليم والتعويض المُذلين، انتظمت بعدها الجماهيرية في ِمِسحل العائدين إلى الحظيرة الأمريكية.
وحصار على السودان كي ينصاع لاقتطاع جزء من لحمه ومركز دولته الأولى بعد أن نجحوا أو كادوا في اقتطاع جزء هام من امتداده الجنوبي، لكن الرد جاء بعيدا عن العقلانية بل مزيدا من الحصار الداخلي والتشريد وملاحقة سروال الصحفية لبنى أحمد حسين بدل المصالحة والتنمية وبناء دولة القانون والمؤسسات.
وحصار جزئي على سورية لأنها لم تقبل أن تتحول حدودها إلى مصايد للمصممين على مقاومة الاحتلال، ولم تتخل طوعا وفي احتفال مهيب أمام البيت الأبيض عن جولانها ولم تطعن شرفاء الأمة في ظهورهم وهم يصنعون بدمائهم البديل عن أنظمة الهوان.
لكن الحصار على غزة ليس ككل الحصارات. إنه مختلف لونا وطعما ورائحة. لونه بلون الدم وطعمه مذاق السم ورائحته أقرب إلى رائحة غاز الفوسفور.
فالعراق بملايينه وثروته واتساع رقعته لم يوصله الحصار إلى الركوع فأكملت القاذفات والدبابات المهمة، والسودان بحجمه القاري يستطيع أن يمتص الحصار ويتحمل كالفيل الجوع والعطش إن اقتضت الضرورة، وليبيا بنفطها المتدفق يمكنها أن تتحمل أكثر بسبب ثرواتها، فلو وزعت المداخيل النفطية بشيء من عدالة نسبية لأصبح كل ليبي مليونيرا. وسورية، وخلفها تاريخ عريق من العزة والمقاومة والأمن الغذائي لا يؤثر فيها وخز الزنابير.
أما غزة، يا جادها الغيث، فكيف يمكن أن تصمد لمثل هذا الحصار المكعب: إسرائيل وعرب وسلطة، في رقعة بحجم ملعب الغولف في قصور بعض الأمراء والوزراء وأغنياء الحروب؟ من يصدق أن هذا الكم البشري المكدس في قفص يمكنه أن يتحمل حصارا حتى لو كان لا يشمل إلا الوقود؟ فما بالك وهو حصار شامل من البر والجو والبحر ويتشارك في إنفاذه عشرات الدول والبنوك والمنظمات الدولية والميليشيات وذوو القربى وأطراف عديدة مستفيدة من الحصار!
من يصدق أن هذه اللحوم البشرية استطاعت أن تستوعب ضخ آلات الموت لكل حممها الجهنمية لمدة إثنين وعشرين يوما دون توقف. تخيلوا معي للحظة أن حجم القصف الذي طال غزة، تعرضت له مدينة تل أبيب ليوم واحد فقط....
أو تخيلوا معي أن الحصار الشامل المفروض على غزة منذ أوائل تموز(يوليو) عام 2007 سيفرض على إسرائيل لمدة شهر واحد، إذن لتفككت الدولة الاصطناعية وهرب كل غريب إلى بلده الأصلي أو بلد آبائه وأجداده فارتباطهم في الأرض ليس طبيعيا بل مشروط ببقائهم في مركز القوة وضمان حياة مرفهة سهلة تؤمن لهم رزمة من الامتيازات والمغريات والضمانات لا تستقيم حياتهم بدونها .
كيف يتحمل هذا الشعب كل هذا الحصار وآلات الموت معا؟ من أين أتوا بكل هذا الجَلَد؟ وكيف يستطيعون أن يتحايلوا على شظف العيش وانسداد قنوات الأمل و'ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل'؟ لا أحد يملك جوابا ولا كل علوم الأرض تستطيع أن تفك شيفرة هذا السر العظيم الذي يرضعه أبناء وبنات غزة حتى وهم في الأرحام.
لكن أهل غزة بشر عاديون، يجوعون ويعطشون ويقاومون ويموتون ويتوالدون ويصرخون ويغنون ويصومون رمضان ويفطرون على حبات تمر إن توفرت ويحبون أن يمشوا على شاطئ البحر برجلين حافيتين ويتمنون لو ناموا ليلة واحدة دون هدير أو أزيز أو زخات أو لعلعة. أحلامهم عادية جدا لا تتجاوز البيت والعِلم وسترة الحال للولد والبنت.
ليسوا بحاجة إلى موت مضاعف ولا إلى دموع زيادة ولا إلى مزيد من فقر الدم. ولكن انظروا معي إلى النتائج بعد اكتمال الحصار الشامل عامه الثاني والشروع في بداية عام آخر من الوجع والحزن والعتمة وشح الماء وأكوام الدمار ونفاد علب السردين والورد الميت نتيجة إغلاق منافذ التصدير والمدارس المحطمة والأنفاق التي قد تحمل شيئا من مقومات الحياة وقد تتحول إلى مدافن جماعية.
تعالوا معي لنلقي نظرة سريعة على الأوضاع في قطاع واحد من مظاهر الحياة في غزة وهو قطاع التعليم، فقد اخترت هذا المجال حتى لا أبالغ في نقل الوجع إذا ما تحدثت عن التشرد والوضع الصحي والغذائي والبطالة والتجارة والصناعة وحرية الحركة والبيوت المهدمة وغيرها الكثير.
أتصدقون أن 53 بالمائة من سكان القطاع دون سن الثامنة عشرة، وأن ثلث سكان غزة تقريبا من الطلاب حيث يصل العدد إلى 441,452 طالبا موزعين على 640 مدرسة منها 383 مدرسة حكومية و221 مدرسة تابعة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) و36 مدرسة خاصة.
لم يغادر القطاع لمواصلة دراساتهم في الخارج في السنة الدراسة الماضية إلا 70 طالبا من أصل ألف تقدموا بطلب تصاريح المغادرة. واضطر 9,000 طالب من 15 مدرسة دمرت أثناء عملية 'الرصاص المسكوب' وأن ينضموا إلى 73 مدرسة أخرى مما اضطر مدارس الأونروا والمدارس الحكومية أن تعمل بنظام الفترتين الدراسيتين في اليوم وبعدد طلبة مضاعف في القسم الواحد يصل أحيانا إلى 60 طالبا. وهناك 1,200 طالب يواجهون خطر عدم استيعابهم في أية مدرسة أثناء العام الدراسي القادم بعد أيام.
أثناء الهجوم الدامي على غزة تعرضت 280 مدرسة وروضة للتدمير الكامل أو الجزئي من بينها 18 مدرسة دمرت بالكامل. كما دمرت ستة مباني جامعية وتعرض 16 مبنى للدمار الجزئي. بينما استشهد 164 طالبا و12 معلما وجرح 454 طالبا وخمسة معلمين من مدارس الحكومة، أما مدارس الأونروا فقد فقدت 86 طالبا وثلاثة معلمين وجرح 402 من الطلبة و14 معلما.
في الظروف العادية يحتاج القطاع إلى توسيع أو بناء 105 مدارس سنويا لاستيعاب الأعداد الجديدة من الطلبة، وهو ما يتطلب 25,000 طن من قضبان الحديد و40,000 طن من الإسمنت فمن أين يمكن تحقيق هذا التحدي في ظروف استثنائية كالتي يعيشها القطاع؟
واسألكم بشهركم الفضيل هذا كيف يمكن لطفل غزاوي أن ينمو نموا طبيعيا بعيدا عن القهر والحقد والشعور بالإحباط والغضب على كل الدنيا. هل يستطيع أحد في هذا الكون أن يدجن الغزاوي ويحوله إلى حمل وديع يتغزل في عدوه ويطبع علاقاته معه وينام دون أن تداهمه أحلام مزعجة وكوابيس خانقة تجعله ينتفض في وسط الظلام رافعا قبضتيه في الهواء محاولا تسديد لكمة إلى هذا الكون حتى وإن كان يعرف أنها ستكون طائشة كطلقات سعيد مهران بطل رواية 'اللص والكلاب'.
أليس تدمير التعليم مقصودا بذاته كي تخرّج غزة أفواجا من المتطرفين لا أفواجا من الأطباء والمهندسين والمعلمين والاقتصاديين والكتاب والصحافيين والتقنيين والمزارعين المهرة والصناعيين وغيرهم؟ عشرون بالمائة فقط من طلبة الصف السادس الابتدائي نجحوا في امتحان معياري في العام الدراسي 2007-2008 في الرياضيات والعلوم واللغتين الإنكليزية والعربية.
ألا ترون أن هذه الأعداد من البشر المكدسين في أربعين كيلومترا بالطول وثلاثة عشر كيلومترا بالعرض قد تحولوا إلى مختبر حقيقي محكم الإغلاق لإنتاج وإعادة إنتاج التطرف النابع من القهر والحصار؟ بعضهم يحاول إقامة إمارة إسلامية وآخرون يشنون حربا على مجسدات (مانيكات) واجهات المحلات التجارية غير المحتشمة وآخرون يجبرون المحاميات المثقفات الواعيات العاملات أن يخضعن لمعاييرهم هم في اللباس دون إعطائهن حتى ممارسة حق الرد، فالحجاب والجلباب أصبحا لدى قسم من السكان ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل خوفا من انهيار الدنيا والدين.
وبعد ما نراه أمام عيوننا هل هناك أحد يفكر بطريقة موضوعية يصدق أعظم كذبة تفتقت عنها مخيلات الأعداء والتقطها شركاؤهم المحليون تحت عنوان 'عملية السلام'؟ الخوف ليس من فشل ما سمي كذبا عملية السلام بل الخوف من جيل قادم مغمس بالقهر والحقد والإحباط إذا ما تبنى خطاب التطرف اللامحدود.
* أستاذ جامعي وكاتب سياسي مقيم في نيويورك جريدة القدس العربي 24/8/2009