تقدمت الصحافة المصرية – تقنياً- بشكل واضح في العقد الأخير، وساعد على ذلك تطور وسائل الاتصال والإنترنت، الذي يرى البعض أنه صار يمثل تهديداً لكل ما هو ورقي أو مطبوع، فكافة المطبوعات أصبح لها نسخاً الكترونية، سواء الكتب أو الصحف والمجلات والدوريات، ويمكن القول بأن التهديد الأكبر يقع على الصحف، والمفارقة أنها تشارك بنفسها في صناعة هذا التهديد، فبخلاف المواقع الإخبارية، أصبحت كافة الصحف تطرح على موقعها نسخة العدد التالي على ذات الهيئة الورقية، فيما يسمى بالإصدارات الرقمية(Digital Editions) ، وبذلك تقلل بنفسها نسبة توزيعها، ولكنها ضرورة موجِبة في خضم سباق التكنولوجيا المستمر، وهي بذلك تعتمد على نوعين من القراء للصحيفة الورقية، القارئ الذي لا يتعامل مع الانترنت أصلاً، والقارئ الذي تتمتع الصحيفة الورقية بولائه، فهناك قاعدة إعلامية تؤكد أن لكل وسيلة إعلامية، كاتب صحفي، مذيع راديو أو تلفزيون، قاعدة من الولاء الجماهيري، فهناك دائماً شخص يلتزم بقراءة ذات الجريدة أو مشاهدة ذات القناة، أو متابعة ذات الإعلامي بشكل دائم ومستمر. أردت فقط مما سبق أن أشير إلى الوضع التقني للصحافة المصرية حالياً، قبل أن أنتقل لنقد الممارسة الإعلامية ذاتها، وبشكل عام، يمكنني أن أصف الصحافة المصرية، ورقية أو الكترونية، بأنها "صحافة متطرفة"، متطرفة في تأييدها، متطرفة في معارضتها، واستكمالاً للنهج الذي بدأت به، سأترك للقارئ قياس ما أشير إليه على الأمثلة الموجودة في الواقع. باختصار أصبحت الصحف المصرية تمثل أدواتًا للتوجيه، متناسية أن الرسالة السامية للاعلام تتمثل في إنارة العقول، ودعمها بالمعلومة الكاملة، والرأي وضده، تاركة لهذه العقول حرية الاعتناق والتوجه، وأود أن أشير إلى أن المساحة الصحفية الوحيدة المسموح فيها بإبداء الرأي، صريحاً أو ضمنياً، هي هذه المساحة التي أستخدمها الآن، المقال، أو العمود الصحفي، والحق أقول أنه لا توجد صحيفة واحدة (جريدة أو مجلة)، تخرج عن هذه القاعدة، فيما يخص الرأي الصريح والمباشر فقط، أما التوجيه الضمني، فما أكثره في كل خطوة تخطوها العين بين كلمات الصحيفة، فالخبر، هذا القالب الذي لابد أن يتمتع بحيادية تامة، ويعد التوجيه فيه جريمة كبرى في عرف صاحبة الجلالة، وليس في عرفالقانون للأسف، يمكن ملاحظة التوجيه فيه بشكل بَيِّن، واسمحوا لي أن أبتكر مثالاً من مخيلتي لأوضح، تأمل الصيغة الخبرية للعنوان الآتي: "الأمن يفض تظاهرة لأعضاء الإرهابية بالمنيل" ثم تأمل هذا العنوان الذي يصلح لذات المادة الخبرية بتصرف معين في الصياغة: "قوات الانقلاب الدموي تفتك بثوار المنيل" فالعنوان الأول يؤكد للقارئ أن المواطنين المتظاهرين يتبعون جماعة الإخوان، التي يصفها ب (الإرهابية)، كما لو كان المحرر الذي قام بصياغته قد اطلع على (كارنيهات) عضويتهم جميعاً بالجماعة، مما يثَبِت صورة ذهنية لدى القارئ تربط بين كل متظاهر، وجماعة الإخوان، فيصبح كل متظاهر أو معترض، في ذهن القارئإخوانياً إرهابياً مجرماً موجهاً ممولاً...الخ، وهذا ما نجحفيه الإعلام المصري باقتدار. أما العنوان الثاني، فهو يمثل فتيلاً قميئاً لإشعال الفتنة في المجتمع، ويثَبِت لدى القارئ صورة ذهنية مفادها؛ وحشية رجال الأمن، وفتكهم بالمصريين، وتلوث أيديهم بدماء الشعب، كما لو كان هؤلاء الرجال مرتزقة جاء بهم النظام لقتل الشعب وقبض الثمن، فأصبح كل جندي أو ضابط، في ذهن القارئ قاتلاً وسفاحاً وخائناً...الخ، وقد نجحت هذه الوسائلأيضاً في تثبيت تلك الصورة لدى جماهيرها بنفس درجة الاقتدار. أما بالنسبة للصيغة الأكثر مهنية لهذا الخبر، فأعتقد أنها ينبغي أن تكون كالآتي: "قوات الأمن تفض تظاهرة بالمنيل" الخبر– في الأصل - لا يصف أو ينعت، لا يضخم ولا يسفه، لا يُضيف ولا يُنقص،ولا يوّجه..الخبر "يُخبر" ليس إلا. عزيزي القارئ، إعلام متطرف، لايمكن أن ينتج وطناً مستقراً، أو شعباً سوياً. إنها الفتنة، ولا شيء سواها... دمتم في أمان.