كانت رحلة ليست بطويلة على متن ذلك القطار الذي يطلق صفارته معلناً عن بدء رحلته عبر الحياة ، حينها كان هذا المسافر مرافقاً لأولئك المسافرين ،جلس معهم على متن كرسي عتيق يغلب عليه الطابع الشرقي ،فهو غريب في هذه الرحلة ولا يعلم من سيكون معه في هذا المشوار وماذا سيجني من جراء ما تخبي له الأقدار ،شرع ذلك القطار في رحلته مع غروب الشمس في ليلة شتاء ممطرة ،المطر يهطل بغزارة والبرق يخطف الأبصار في تلك السماء الملبدة بالغيوم مخلفاً وراءه ذوي الرعود الصاعقة .
على حين غرة تأتي فتاة غريبة الأطوار وتمكث غير بعيدة عنه ،بينها وبين كرسيه مسافة خمسة أمتار كانت مكان لجلوس هؤلاء المسافرين ، لم يكن يعرفها من ذي قبل ،ظلت طوال الرحلة القصيرة تلمح له بشتى الوسائل التقليدية ،كان مدركاً تماماً لما تعنيه هذه الفتاة من جراء هذه الحركات البهلوانية التي تقوم بها ، كانت هذه الحركات لحاجة في نفسها ... تظاهر بأنه ليس مدركاً لما تقوم به هذه الفتاة من حركات غريبة وعجيبة ،أدار وجهه نحو نافدة ذلك القطار ولكنه رأى صورتها قد علقت بتلك النافدة أو أن النافدة أصبحت مرآة عاكسة لوجهها ،حينها لم يعد يستطيع أن يحجب وجهه ونظراته عنها رغم أنها ليست بذلك الجمال الذي يقاس به ، فكانت متوسطة الشكل بعكس اسمها الذي تحمله (المنظر الحسن،وما يرنى إليه لحسنه).
فشتان بين الاسم ومعناه الحقيقي . في بداية الأمر لم يكن يريد أن يدخل معها في علاقات غرامية فاشلة لأنه كان صادق مع نفسه ،ولكن ماذا يستطيع أن يفعل مع ذلك القدر الذي جلبه إليها في نفس المكان والزمان ،نظراتها فيها لمحة إصرار على الحديث وكأن شيء ما تخفيه في نفسها .... أخيراً قرر التعرف عليها ولا مناص من الهروب ، لقد طفح الكيل من تلك العزوبية ،لأنه هو من صنع العزوبية لنفسه ،بداء يناجي نفسه ويقول قد تكون هذه الفتاة نهاية الحد الفاصل للعزوبية ،فأتخذ قراره بوضع أفكاره في المكان الذي اختاره ،نهض من على كرسيه وسار باتجاهها ،طلب منها الحديث ...فوافقت على الفور ،كان يرى في وجهها السعادة تطير فرحاً بهذا اللقاء ،فسألها قائلاً: هل أنتِ متزوجة ؟ فأجابته : لا. فقال لها : ألستِ مخطوبة ؟ فأجابته : شبه مخطوبة .
كانت إجابة غير واضحة المعالم كان يدرك بان هناك شبه دائرة وشبه مستطيل وشبه زاوية وشبه جزيرة ،ولكن شبه مخطوبة فلم تكن موجودة على الخريطة الرومانسية أبداً حينها اعتذر منها بأدب ورجع عائداًَ أدراج خطواته إلي ذلك الكرسي ،،،، ظلت نظراتها تطارده بين الحين والأخر ،لم يكن يعرف ماذا تريد منه بالضبط هذه الفتاة الغريبة الأطوار ،ولكن كان هناك هاجس في نفسه يقلقه ويريد أن يعرف ماذا تريد منه هذه الفتاة ، فقال في نفسه : سوف أكون مسامح معها واذهب لها من جديد لعلها تكون قد رجعت إلي صوابها،طلب منها الحديث مرة أخرى ،وافقت على الفور ،كان ذلك قبل نهاية الرحلة التي لم تستمر أكثر من شهرين بينه وبينها .
فقال لها : ألا زلتِ تتذكرين حين التقينا لأول مرة ؟ فقالت له : نعم أتذكر عندما تركت تلك الأضواء مشتعلة .....وأنت من نبهني عنها ،في حقيقة الأمر هي تركتها مشتعلة وذلك عن قصد منها ، بعدها أخدهما الوقت في الحديث ،رجع لها بسؤاله السابق الذي يراوده ،فأجابته قائلة : الآن أنا مخطوبة ، لم يصدق ما كانت تقوله له ،كانت تعتقد بأنه أبله أو غبي مثل البقية الذين يصدقون كل شيء والمياه تسير من تحت أقدامهم وهم لا يشعرون ،فكان على عكس ما كانت تتصوره أو ترسمه في مخيلتها ،لأنها لم تلتقي أبداً طوال حياتها بمثل هذا الإنسان النبيه صاحب التجربة الفريدة في الحياة .... بعد برهة قصيرة من الزمن قام من على كرسيه وذهب للسؤال عنها ،كان يريد أن يصل إلي الحقيقة المخفية وراء ستار الكذب لمجرد الفضول لأغير ،فسال عنها احد الركاب الذين كانوا مجاورين لها ...
فأخبروه بأنها ليست مخطوبة بل أنها تتظاهر بذلك وتحلم بان تكون كذلك لان شخصيتها منفصمة و مهزوزة الكيان .... وقالوا له : ابتعد ولا تقترب منها إنها فتاة منحطة خُلقياً، فمثل هذا الصنف اللعوب ليس من ثوبك المحبوب ، بداء يناجي نفسه كيف يتخلص منها بعد أن عرف حقيقتها ..بعد فترة وجيزة من ذلك المشوار قالت له: أنا لا أريدك أن تتعلق بي .فقال لها من أنتِ حتى أتعلق بكِ وماذا تعني بالنسبة لي ، أم أنتِ شجرة أو حائط حتى أتعلق بكِ ، أنتِ مجرد نكرة في حياتي ..... حينها قام بتوجيهها كلمات موبخة إهداء منه لعدم صدقها معه ،فهي كاذبة منذ البداية فكيف ستكون النهاية إن استمرت على هذا المنوال ........أخيرا رفعت الأقلام وجفت الصحف وتخلص منها والي الأبد .
ترك ورآه كل الصعوبات وأبحر باتجاه الحب السرمدي. رجع إلي كرسيه الذي كان يجلس عليه في السابق وظل يحتسي كأس من الشاي الساخن وهو يبتسم لما يفعله هذا الصنف الغبي المُقرف من النساء .
في تلك اللحظة تحط حمامة بيضاء تحمل الصفاء والنقاء جميلة في الشكل وبهية في الكرم والعطاء لتحط من فوق رأسه لتقول له أنت نصيبي في الحياة ... كانت هذه ضالته التي كان يبحث عنها طوال حياته .... حينها طلب من ذلك القطار التوقف والنزول ،فعندما صعد هذا القطار كان لوحده ولكن عند النزول نزلت معه حمامته البيضاء التي سوف تكمل معه مشواره في الحياة ، فهي حمامة بيضاء بها الصفاء والنقاء ،لا تحمل ذرة سوء وليس بها شي من الكذب ولا الغباء .... * قمة الحب هو أن يجبرك الصمت على الكلام فيعجز الكلام عن التعبير فتصمت ،،،وأجمل هندسة في الحياة هي بناء جسر من الأمل فوق بحر من الخواطر .. ولا طيب الله خاطركم أيها الصنف الغبي من النساء .