بعد أيام قليلة تحلّ ذكرى ميلاد عميد الأدب العربي، طه حسين، وكأن التاريخ يُذكّرنا في كل عام أن ميلاد رجلٍ واحد قد يُغيّر مسار أمة بأكملها. لا يُولد طه حسين في الذاكرة ككاتب فحسب، بل كزلزالٍ ثقافي هزّ جذور المسلّمات، وفتح للعقل العربي نافذةً على الضوء بعد قرونٍ من الترديد الأعمى. وبين دفّتي كتابٍ صغيرٍ حمل عنوان «في الشعر الجاهلي»، اشتعلت واحدة من أجرأ معارك الفكر العربي الحديث، لتتحول صفحات الأدب إلى ساحة فكرٍ تقاتل فيها الفكرة بالكلمة، لا بالسيف. كان العام 1926، حين خرج طه حسين – بعصاه التي تهشّ على العتمة – ليواجه الموروث بسلاح العقل، ويفتح نوافذ الشكّ في زمنٍ كان الصمت فيه عبادةً والتكرار علامةَ تقوى. لم يكن الرجل يسعى إلى الهدم كما ادّعى خصومه، بل إلى إعادة بناء الوعي العربي على أسس النقد والتأمل، حيث لا تُقدَّس الأفكار لمجرّد قِدمها، ولا تُصان النصوص لأنها منسوبة إلى السلف. كان يريد أن يعلّمنا أن التراث لا يُورَّث كما هو، بل يُستعاد ليفكَّر فيه من جديد. وجوهر أطروحته كان نداءً جريئًا للعقل كي يستيقظ من سباته الطويل. فالرجل المتأثر بالمنهج الديكارتي في الشكّ قرّر أن يعيد قراءة الشعر الجاهلي لا بوصفه نصًّا مقدسًا، بل مادةً قابلةً للفحص والتحليل. رأى أن الشعر الذي ظلّ العرب يفاخرون به قرونًا لم يُدوَّن في زمنه، بل انتقل شفهيًّا عبر الألسن، يحمل ما حملته من تحريف وزيادة ونقصان، كمرآةٍ للذاكرة أكثر منها للتاريخ. ثم أشار إلى ظاهرة الانتحال في العصر العباسي، حين كانت القصائد تُختلق وتُنسب إلى شعراء الجاهلية، مدفوعةً بحميّة القبائل أو برغبة الشعراء الجدد في مجاراة القدماء. لكن الجملة التي فجّرت العاصفة كانت قوله إن العرب – بعد نزول القرآن – سعوا إلى «اختراع» تراثٍ جاهليٍّ يُقارن بالنص الإلهي، وكأنهم أرادوا أن يصنعوا ماضيًا أدبيًّا يقف ندًّا للحاضر المقدّس. كانت الفكرة صادمة، والشكّ فيها أقرب إلى التمرّد منه إلى التساؤل، لكنها أعادت السؤال القديم إلى الواجهة: هل نفكر لنعرف، أم نؤمن لنرتاح؟ ومع ذلك، لم يَسِر طه حسين في طريق الشك حتى نهايته. لم يُلغِ الشعر الجاهلي جملةً، بل أكّد أن ما وصلنا منه مزيجٌ من الصحيح والمصنوع، وأن القليل فقط يمكن الوثوق بصدقه. كانت دعوته إذن دعوةً إلى إعادة بناء التراث بعقلٍ ناقد، لا إلى محوه من الذاكرة. غير أن صدى أفكاره دوّى كالرعد، فأشعلت حوله الصحف نيران المعارك الفكرية والدينية والسياسية. واستنفر علماء الأزهر دفاعًا عن «ثوابت الأمة»، واتُّهم بالكفر والزندقة، وارتفعت الأصوات تطالب بمحاكمته، كأنما أعلن حربًا على المقدّس لا على المنقول. تحت هذا الضغط، أصدر نسخة معدَّلة بعنوان «في الأدب الجاهلي»، ممهّدًا لها بمقدمةٍ أكثر هدوءًا، من غير أن يتراجع عن جوهر فكرته أو عن إيمانه بأن للعقل حقًّا مقدّسًا في أن يسأل ويشكّ. كانت تلك التهدئة تكتيكًا لا خضوعًا، وحين هدأ الغبار، بقيت الفكرة أصلب من كل ما وُجّه إليها من اتهامات. لقد خرج طه حسين من المعركة مرفوع الرأس، بينما خرج خصومه أسرى خوفهم من السؤال. لم يكن في الشعر الجاهلي مجرد كتابٍ في النقد الأدبي، بل بيانًا لميلاد العقل الحديث في الثقافة العربية. أراد طه حسين أن يُحرّر الفكر من أسر التقليد، وأن يعلّم جيله أن التقديس الأعمى لا يصنع نهضة. دعا إلى أن تُعامَل النصوص القديمة كما تُعامَل الآثار: نُزيل عنها غبار القرون قبل أن نحكم على جمالها. أراد أن يفصل بين الإيمان كقيمة روحية والعقل كأداة بحث، مؤمنًا بأن العقل يمكن أن يكون متدينًا دون أن يفقد حريته. واليوم، ونحن نقترب من ذكرى ميلاده، تظل شرارة طه حسين تتوهّج في وعينا الجمعي، كأن صوته يأتينا من بين الصفحات ليذكّرنا بأن الأمم لا تُقاس بما تحفظه من ماضيها، بل بما تجرؤ على سؤاله. لقد علّمنا أن التراث ليس جدارًا يُعانق القداسة، بل نهرًا حيًّا يتجدد كلما خضناه بشجاعة. وهكذا تحوّل في الشعر الجاهلي من كتابٍ متَّهَم إلى شاهدٍ على ميلاد الحداثة في الفكر العربي، وإلى تذكيرٍ خالد بأن العقل الحرّ، مهما حوصِر، لا يموت. [email protected]