المكان: مستشفى الأمراض العقلية. الزمان: 11\2008 .. أي يوم يعجبك. دخل الطبيب العنبر ترافقه ممرضة حسناء، اقترب من سريري و بعد أن عدل من مكان عويناته، نظر لي بشفقة قائلا:"ها.... عاملة إيه النهارده؟"، شعرت بالإهانة وقلت وأنا أحاول التخلص من البالطو الأصفر الذي قيدوني به: " عاملة محشي ... وإنتَ مالك يا جدع إنتَ؟.. طلعوني من هنا.. هم اللي مجانين مش أنا "، نظر الطبيب للممرضة التي قالت لي:"الدكتور قصده صحتك عاملة إيه؟.. هو عايزك تحكي له اللي حصل عشان يطلعك". اعتدلت في جلستي على قدر المستطاع و اشترطت أن يطعموني و يفكوا البالطو حتى أتكلم، وافق الطبيب على الطلب الأول، أما الثاني فرفضه، قلت بنفاد صبر:" أمري لله.. أما أشوف آخرتها". قال الطبيب الذي اقترب مني بحذر:" إيه رأيك نتعرف على بعض الأول.. وبعدين تحكي لي كل حاجة براحتك؟". نظرت للممرضة الحسناء و قلت بنبرة تهديد غير مبالية بالطبيب:" أنا هحكي كل حاجة عشان أطلع من هنا.. ولو الراجل ده ما بطلش أسلوب بوجي و طمطم ده هعضه.. ومش هحكي حاجة!". استجاب الطبيب و حاول مداراة خوفه بابتسامة مستفزة، بدأت أحكي قائلة :" أنا في كلية آداب عين شمس قسم إنجليزي سنة ثالثة... و لأن كل شيء له حدود فأنا كنت ماسكة أعصابي لمدة سنتين.. وطبعًا صلاحيتهم انتهت.. اللي حصل لي بيحصل كل يوم تقريبًا لكل طالب و طالبة.. إمبارح كنت رايحة الكلية و كان عندي محاضرة من 8 صباحًا.. ولأن الدكتورة دقيقة في مواعيدها جدًا فالساعة 8 بالدقيقة كان عم "عصام" بيقفل الباب بالمفتاح.. و 8 بالضبط كنت بحاول أطلع السلم بسبب الكتل الآدمية اللي قررت تمسح السلم بهدومها.. طبعًا فاتتني المحاضرة "زي كل أسبوع" .. أستاهل عشان أتعلم بعد كده أحافظ على المواعيد.. قلت أقعد على الأرض لحد ما تخلص المحاضرة.. و بدأت حرقة الدم..كل البنات تقريبًا بلا استثناء لابسين نفس الجزمة..حاجة صغيرة كده و عاملة زي جزمة الباليه ..عرفت فيما بعد إن اسمها "بلارينا"..و خد عندك جميع الألوان.. إشي أصفر و أحمر و أخضر و أزرق" .. لاحظت أن الممرضة ترتدي هذا النوع من الجزم فقررت أن أغير الموضوع. " كان عندي محاضرة بعد كده من 10 ل 12 في مدرج..مدرج..315.. و كان مشغول.. و طبعًا زي الناس المتحضرين لزقت في الباب عشان أول ما الناس اللي جوه تطلع.. أهجم عليهم ..بس المشكلة إن اللي جوه عندهم نفس روح القتال الحماسية.. فبدأت معركة الفناء بين فريقي "اللي بره" و الفريق المنافس "اللي جوه".. وأول ما فتح الباب تشابكت الأيدي والأعناق والأذرع وعلت الأصوات و الصراخ.. ولاحظت إن فيه ناس بتتسحّب لتحت وما تطلعش تاني..انتهى الجزء الأول من المعركة بفوز فريقي طبعًا.. و بدأ الجزء الثاني اللي كان عبارة عن صراع داخلي بين أعضاء فريقي في احتلال الأماكن ثم حجزها.. وده شمل الأماكن على البنشات و الأرض.. و تنتهي الملحمة الرهيبة بدخول الدكتور في محاولة يائسة للوصول لمقعده.. وبعد أن يستوعب الكتل البشرية اللي محاصراه من كل حتة.. يبدأ المحاضرة.. و طبعًا لازم يكون المايك بايظ .. فالدكتور يكلم نفسه.. أو المايك سليم بس الناس هي اللي بتتكلم.. ولو لقيت مكان.. مش معنى كده أبدًا إن المشكلة خلصت.. لكن لازم تجاهد للحفاظ على مكانك ومكان رجليك عشان تكتب عليهم". " فيه أوضة كده بنروحها مرة أو مرتين تقريبًا في اليوم.. قدامها حمام ريحته وحشة ودايما غرقان ميه و طينة – و نفسي أعرف الطينة بتيجي منين!!- الأوضة جنبها جزامة دايمًا فاضية.. والأرض مفروشة جزم.. ولو دخلت الأوضة دي ممكن ما تطلعش... عرفتها؟ " اقشعر بدن الطبيب و لكن الممرضة ابتسمت و قالت:"عروستي"..أقصد قالت:"أنا عرفتها .. ده المسجد". شعرت أن الطبيب يفكر جديًا في الإستغناء عن خدمات الممرضة، و لكنه حاول أن يركز في كلامي، استطردت :" المسجد ده بقى أوضة عادية دايمًا زحمة حتى لو مفيش وقت صلاة و الزحمة مش من الناس اللي بتصلي.. بالعكس بيكون اتنين تلاتة بيصلوا و الباقي بيذاكروا.. بياكلوا.. أو نايمين ومتغطيين!". قال الطبيب:" سكتي ليه؟... كملي" قلت :" أنا مش فاكرة بقية اليوم.. عايزة آكل". قال الطبيب:" إزاي بقى دي الحتة اللي جاية هي أهم حاجة وهي اللي جابتك هنا.. افتكري.. افتكري". و بدأ الطبيب في هز السرير بعنف ما أعرفش ليه!، في حين أغمضت عيني محاولة استرجاع أي حاجة، وفي النهاية قلت:" أنا تقريبًا كنت مروحة... آه .. كنت راكبة المكيف و تذكرت موقعي حينها كنت ماسكة شراشيب في طرحة البنت اللي واقفة عند أول سلمة عند الباب و أنا كنت ما بين الباب و البنت و... و ....."! " كملي ..إيه اللي حصل بعد كده؟" قالها الطبيب بلهجة رئيس المباحث الذي يستجوب أحد مجرمي الحرب! " كنت مخنوقة من الزحمة في كل حتة، في المدرج و الحمام و أوضة الصلاة و المكيف و حسيت إني هنفجر لو ما عبرتش عن اللي جوايا .. و أثناء صراخ السائق المستمر بالعبارة الخالدة: " اتحركوا يا جماعة ... العربية فاضية ورا".. اندمجت ثورتي مع الغضب الكامن منذ الطفولة.. فأخذت نفسًا عميقًا و صرخت بكل ما أوتيت من قوة :" كفاااية... كفاية زحمة... كفااية خنقة... كفاية..... عاااااااااااااااااااااااااااااااا". صرخت ك "فريد شوقي" في فيلم "عنتر بن شداد" و شرعت أضرب في كل من حولي.. الركاب ...السائق..الكراسي ..الباب.. وكل من قاده حظه العثر للوقوف جانبي أو فوقي!!... انتابني شعور غريب بخفة الوزن لم أستطع تفسيره حتى غبت عن الوعي!". في اليوم التالي ابتعت الجريدة و بعد أن تصفحت صفحة الوفيات، تصفحت الحوادث فوجدت مقالاً به صورتي تحت عنوان:" هروب مختلة عقليًا من مستشفى الأمراض النفسية بعد اقتحامها أوتوبيس مكيف و اعتدائها بالضرب علي السائق و الركاب، على من يجدها الاتصال ب 09009900. ...سعر الدقيقة جنيه و نصف!".