حين نبدأ رحلتنا بالانطلاق في الاتجاه الخطأ، فكل خطوة تبعدنا حتما عن أحلامنا. ولأن البوصلة تسخر من الأيدي المرتعشة، تراها تتراقص في كل الاتجاهات إلا الاتجاه الصحيح. يا لها من ملهاة محزنة تلك الأدوار التي نؤديها على مسرح الحياة، وكأننا قرود غابة استبد بها الظمأ والجوع والوحشة، فتراها تتنقل بين الأغصان عابثة تارة وتائهة أخري، وبعد كل قفزة تعود إلى حيث بدأت لتبدو أكثر إرهاقا وأشد حيرة. من السخرية أن ترانا نعد لرحلة بحرية أو برية أو رحلة فوق السحاب أياما، ونتحسب لكل التفاصيل وكل الأجواء، لكننا نمضي في رحلة الحياة هائمين على وجوهنا نسير خلف كل هاجس، ونتبع كل هوى. وحين يستبد بنا التعب وتنثني مفاصل أقدامنا دون رغبة منا فوق رصيف الحياة البارد نقرر أن نتوقف عند أقرب ناصية. لنكتشف أننا لم نبرح مكاننا القديم، لأننا ببساطة درنا في كل الاتجاهات ولم نتقدم في أي اتجاه ولأن بوصلتنا النفسية فقدت مؤشرها فلم تعد تفرق بين جهة وأخرى أو بين طريق وطريق. وفجأة يظهر بين جفوننا الذابلة ويملأ أحداقنا الضيقة أناس كانوا أقل منا فهما وعلما ووعيا، فنراهم ملأ السمع والبصر. نتهم أذهاننا المكدودة وأبصارنا المطلية بغشاء من التحقير والتهويل. وهناك، عند قارعة الطريق تنتهي رحلة لم تبدأ بعد عند سطر لم تكتب فيه أي كلمة لنضع بأيدينا نقطة النهاية ونمهر رسالتنا بالأحرف الأولى لاسم لم تعرفه الحياة وذات لم يعرفها أحد. كم مرة تهادت أمامنا فرصة عمر فتمايلت يمنة ويسرة، وضربت بأقدامها الأرض كي تدعونا إلى رحلة مجانية نحو مستقبل سعيد، فألهانا عنها صوت مذياع وجرس هاتف وآخر كلمة ألقتها حييبة يوم وداع. وكم ارتعدت فرائصنا ونحن نسير خلف طموحاتنا ونطأ طرقات غير معبدة في جوف ليل بهيم، فتحولت هواجسنا إلى أسوار فولاذية تقف بيننا وبين صراط الخلاص. كم شيدنا من سواتر هلامية بيننا وبين أحلامنا ففقدنا وضوح الرؤية وبريق التحدي. وكم تلهّينا بحبات مسبحة الأحداث التي تنفرط كل يوم آلاف المرات، وبخلنا على ذواتنا بجلسة استراحة يلتقط فيها المحارب أنفاسه، ويستعيد فيها البحار بوصلته. وكم أسلمتنا حكاية إلى رواية وتنقلنا من فم إلى فم لنحيك من الحياة ثوبا خلقاً لا يستحق أن نرتديه فلا هو يستر عورة ولا يجمل مظهرا. هل تشعر الآن برغبة في البكاء أو بضيق في التنفس أو بتسارع في وجيب قلبك؟ هل أحزنتك مقالتي وأدمت فؤادك المقروح؟ إن كنت تريد أن تصنع من مقالتي ذيل خنزير تضرب به ظهرك وقفاك، فاعلم أن طريقتك في معالجة الأوجاع لا تؤدي إلا إلى موت سريري على أقل تقدير. إن كنت تريد الآن أن تنسحب إلى فراشك الوثير وتغطي أرنبة أنفك ونصف عينيك، فدونك وما بدا لك، ولكن لتعلم أنني لم أعمد إلى شيء من هذا، إنما أردت أن أقول أن صانع هذا التاريخ البليد هو أنت، وأن تاريخا من الخوف والتقهقر والعري كان من صنعك أنت. أنت صانع ماهر إذن! أنت الذي تراجعت وكنت قادرا على المواصلة، وجبنت وكنت جديرا بالتحدي. هي ذاتك القلقة إذن، المتمردة إذن، صاحبة العبقرية المدهشة في صناعة التراجع. تدرك الآن أن عوائق التاريخ كانت من صنعك أنت، وأنك فارس لم تهزم في أي معركة، ولكنك لم تحقق أي انتصار في أي معركة. ترددك كان سيفك المسلول إذن على كل قرار، ومخاوفك كانت صورة عبقرية شيدها خيالك الفذ. ورضاك بالزهيد أضاع منك كنوز كسرى وملك فارس. أنت إذن الفارس الذي انتصر، والقائد الذي انكسر وسالت دماؤه فوق ميادين الحياة وأزقتها. عليك الآن أن تتصالح مع مارد الروح وتخرج قمقم الإرادة من جيب النسيان وتفرك مصباح التحدي لتنطلق وتبدأ الحياة.