أخبار الحوادث ترصد: أطفال في عمر الزهور قتل المرض أحلامهم أسرهم يتخذون من الرصيف مأوي.. ومن موائد الرحمن ملاذًا عقارب الساعة تشير للخامسة صباحًا، وسط زحام شديد من المسافرين، وقف "أحمد" شاب ثلاثيني، أمام البوابة الرئيسية لمحطة القطار بأسيوط، حاملًا على كتفه ابنه "السيد"، يسأل عن قطار القاهرة، جلس أحمد في عربة القطار يداعب ابنه الصغير، الذى تبدو عليه آثار التعب والمرض، عدة ساعات مرت حتى وصل أحمد للقاهرة، استقل المترو حتى نزل أمام مستشفى أبو الريش اليابانى، بخطوات تسارع بعضها البعض، ركض نحو باب العيادات الخارجية للمستشفى؛ بعدما نال حظه من الوقوف ما يزيد عن نصف ساعة في طابور التذاكر، تم الكشف على طفله واحتجازه داخل المستشفى، ولم يستطع الأطباء بعد تحديد حالته بالضبط، تفاجأ أحمد أنه لابد وأن يمكث مع ابنه، شيء لم يأت في حسبانه، كان يعتقد أنه بمجرد الكشف عليه سيأخذه ويعود لبلدته، اضطر أحد أصدقاؤه الذين جاءوا معه العودة لأسيوط، لإحضار ملابس وأطعمة لهما، لم يجد أحمد أمامه سوى رصيف المستشفى لينام عليه، لا يتمنى سوى أن يشفى ابنه ويعود به لقريته. هنا أمام مستشفى أبو الريش، هنا الآباء والأمهات الذين يتخذون من الرصيف صديقًا لهم، يلقون عليه همومهم، هنا يكون الشارع مأوى لهم، هنا ينامون ويأكلون، هنا العشرات من الأهالي الذين يحملون أطفالهم بعدما نهش المرض أجسادهم النحيفة، هنا مستشفى أبو الريش ذلك الصرح الكبير الذي تم بناؤه منذ عشرات السنوات، يخدم الملايين من مرضى الأطفال في كافة التخصصات، يلجأ إليه جميع الناس من كافة المحافظات باعتباره شعاع الضوء الذي يمد لهم يد العون، هنا يحاول المستشفى أن يبث الأمل من جديد في نفوس أهالي تلك الأطفال، الذين يأسوا من علاجهم في مستشفيات داخل محافظتهم، ولكن مازال المستشفى يعمل بميزانية محدودة للغاية. "أخبار الحوادث" كانت هناك تقوم بجولتها أمام المستشفى، لتستمع من الأهالي قصصهم، وحكاياتهم، على الرغم من اختلاف أماكنهم، إلا أنهم اتفقوا على ظروف المعيشة الصعبة، ومعاناتهم مع أطفالهم. أب وطفلان يعيشون على أمل الشفاء عماد، رجل على مشارف الخمسين من العمر، جاء من الإسماعيلية منذ أكثر من 12 عامًا، لعلاج ابنه عمر الذى يعاني من الفشل الكلوى منذ ولادته، جاء عماد للقاهرة بعدما يأس من علاج طفله في إحدى مستشفيات الإسماعيلية، فضلًا عن الإهمال الطبي الذي لاقاه، ظل يأتي ثلاثة أيام أسبوعيًا مع طفليه، حتى اكتشف أن ابنه الكبير هو الآخر يحتاج لغسيل كلى، لم يكن القدر رحيمًا بذلك الأب وطفليه، عندما قررت الأم أن تتخلى عنهم، وترفع قضية خلع على زوجها، فكان عندما يأتي للمستشفى لا يجد مأوى لهم سوى الرصيف، فيفترش الجرائد للنوم عليها، في عز البرد القارس، وكان ما يستطيع أن يفعله ليحمي طفليه من برودة الجو أن يقنع موظفي الأمن أن ينام الطفلين بالداخل، ولكن في الصباح الباكر يستيقظا، فيناما بالخارج، ويكون عماد هو الحارس لهما، وأصبح هو وطفليه يعيشون على أمل واحد وهو الشفاء. من الشجاعة للخوف "أم كريم"، كما يطلقون عليها، فتاة فى الثلاثينات من العمر، جاءت من أقصى الصعيد؛ لتعالج ابنها من الفشل الكلوي، طلقها زوجها وتخلى عنها أهلها، فقررت أن تترك الصعيد نهائيًا وتأتى لتقيم بإحدى دور الرعاية بالقاهرة، لديها من الأبناء اثنين، كانت ابنتها الكبرى تعاني من الفشل الكلوي وتحتاج لزراعة كلى، لم تجد تلك الأم المسكينة حلًا أمامها سوى التبرع لابنتها بإحدى كليتيها، وأصبح ابنها هو الآخر يحتاج لزرع كلى، فأصبحت تأتي للمستشفى، وتنام هي وابنتها بالخارج على الرصيف، وتحولت شجاعتها من التنازل عن إحدى كليتيها لخوف شديد على ابنتها التي تنام معها على الرصيف، فهى تنام مثل الذئاب تغمض عين وتفتح أخرى خوفًا عليها من البلطجية الذين يملئون الشوارع ليلا، أمنياتها هى الستر والشفاء لطفليها. "رشا" ومائدة الرحمن رشا صلاح، تلك الأم التي لا يظهر من نقابها الأسود سوى عينين تراقب بهما طفلها الصغير الذي يحمله والده على كتفه مشهد كان كفيل أن يلفت انتباهنا نحوها، فقررنا الاقتراب منها، لنعرف حكايتها، فقالت لنا بنبرة صوت يعتليها الحزن: "ابني يعاني من متلازمة داون منذ ولادته، أصبحت أتردد على المستشفى يوميًا لمتابعة حالته، وزوجي رجل بسيط يعمل على باب الله، لم نجد مكانًا سوى الرصيف لننام عليه، ولم نجد سوى مائدة الرحمن للإفطار عليها، وعلى الرغم من أن العلاج داخل المستشفى بالمجان، إلا أن الأشعة والتحاليل تكون على حسابنا، غير أن التبرعات التي تأتي للمستشفى لم تكن كثيرة، فأنا لا أتمنى سوى شفاء ابني، والعودة لبيتي والإفطار وسط أطفالي وأسرتي". رحلة خمسة أشهر "شهد"، طفلة تبلغ من العمر عشر سنوات، أخفى المرض ملامحها الجميلة، وضحكتها البريئة، حين تراها لا تجد إلا الدموع تتدفق من عينيك، جاءت من المنوفية بصحبة والدتها ووالدها، منذ خمسة أشهر، لتتلقى العلاج داخل المستشفى، وبكلمات بريئة تقول: "أنا أعاني من مشاكل كثيرة بالقلب، والكبد، ونفسى أكون دكتورة عشان أعالج الناس"، كلمات كانت كفيلة للأم بأن تدخل في نوبة بكاء؛ فتقول الأم المسكينة: "خمسة أشهر ما بين احتجاز شهد داخل الرعاية، ومكوثها فى قسم القلب، دائمًا ما أجلس معها، ولا أتركها إلا للذهاب لإحضار الطعام، منذ دخول شهر رمضان وأنا أفطر على مائدة الرحمن، أمام المستشفى، فزوجي عامل بسيط في مطعم، وتركني معها للذهاب لتحصيل قوت يومه، والظروف صعبة، ولكن الحمد لله مستورة معانا، جئنا من المنوفية بعدما يئس الأطباء من تشخيص حالة شهد، حتى هنا في مستشفى أبو الريش لا نعرف حالتها بالضبط، وكل يوم أجرى لها أشعة وتحاليل، والعلاج على حسابنا لعدم توافره في صيدلية المستشفى". واختتمت حديثها وهى رافعة يدها للسماء داعية ربها بأن يشفى لها ابنتها، ويرحم ضعفهم، و قلة حيلتهم. أبو الريش خارج سباق حملات التبرع على الرغم من انتشار حملات التبرع للمستشفيات الأخرى، إلا أن مستشفى أبو الريش هذه الحملات، على الرغم من أنه يعد أقدم وأهم مستشفى للأطفال فى مصر، ربما السبب فى ذلك أن تكلفة الإعلان الواحد تصل لملايين الجنيهات، والمستشفى لا تمتلك تلك الميزانية، لأن ما تمتلكه تستغله فى شراء المستلزمات الخاصة بها، فلا يوجد فائض لعمل إعلان. وجدير بالذكر أن هذا المستشفى يستحق الزكاة، لإنقاذ أرواح الأطفال، رأفة بذويهم الذين يجلسون ليلًا ونهارًا أمامها، وتخفيفًا لمعاناتهم.