عندما تزور سنغافورة لن تشعر بأنك قد سافرت آلاف الأميال واجتزت بحارا ومحيطات فقط ، بل ستشعر كأنك سافرت لعشرات السنوات في مستقبل لم نعشه بعد. ورغم صغر مساحتها التي تبلغ 719 كم مربع إلا إنها دولة عملاقة تمتلئ بأماكن استثنائية تستحق الإشادة والإعجاب ليس فقط لمناظرها الساحرة والنظام والنظافة ولكن لأن كثيرا منها يحمل معاني إنسانية عميقة تسحرك بقيمتها وبمن فكر بهذه الطريقة ليبني دولة بهذا الشكل المتحضر الراقي. من خلال مشاركتي في فعاليات الدورة التاسعة لبرنامج صحفيي الشرق الأوسط اتيحت لي الفرصة أن ألتقي بصناع القرار والعاملين في الحكومة الذين نظموا لنا عددا من اللقاءات لنتعرف علي خطط الحكومة وكيف طورت أداءها ورسالتها لتواكب التطور التكنولوجي وحاجات المواطنين المتزايدة. وفي كل القطاعات ستجد أن المشكلة والأزمة الحقيقية التي تؤرق المسئولين في سنغافورة هي الزيادة السكانية ، حيث يبلغ عدد سكان سنغافورة 5.5 مليون نسمة ومن المتوقع أن يصبح العدد 6.8 مليون نسمة بحلول عام 2030. لذا وضع كل قطاع خطة لمواجهة هذه الزيادة مع استمرار توفير خدمات جيدة للجميع خاصة ونحن نتحدث عن دولة متقدمة نسبة المتعلمين بها 96.7% ولا يوجد لديها بطالة. الشوارع الذكية وكانت خطة الدولة في الثمانينيات هي توفير كمبيوتر علي كل مكتب ، وفي عام 2000 تبنت الدولة خطة أخري بتوفير كل الخدمات إلكترونيا، وفي عام 2006 أصبحت الخطة دمج البيانات بالأنظمة العاملة ، ومنذ عام 2011 حتي العام الماضي أصبح توجه الحكومة بدلا من تقديم خدمات للمواطن هو العمل معا من أجل أمة واحدة. وتحول الحديث عن المواطن والخدمات إلي أن الحكومة أصبح لديها مستهلك تقدم له كل الخدمات عبر تطبيقات علي الهواتف الذكية. ومضت سنغافورة عبر مراحل تعميم الهواتف الذكية ثم توفير سكن أفضل وبيئة أفضل ثم تحسين الخدمات وإيصالها للجميع وأخيرا الحفاظ علي وجود اقتصاد تنافسي يضمن للدولة أن تتقدم. خطة سنغافورة الذكية تعتمد علي وضع مجسات حرارية في كل مكان البيوت والمولات والمحلات والطرق والإشارات ووسائل المواصلات تتمكن من خلالها الدولة إدارة كل الخدمات التي يحتاجها المواطن دون عناء.. فمثلا إذا اردت الخروج من منزلك والذهاب لمكان ما ستدخل علي تطبيق تابع لوزارة النقل وستعطيك الخيارات المتوافرة وتبدأ بأتوبيسات النقل العام فسيحدد لك التطبيق المقاعد المتوافرة في كل اتوبيس وموعد وصوله لأقرب محطة لديك كي لا تنتظر في الشارع. نفس الشيء بالنسبة للتاكسي الذي تتوافر منه اشكال عديدة بأسعار مختلفة ويتبع شركات حكومية وخاصة. وتمشيا مع هدف الحكومة بحماية البيئة فإن كل وسائل المواصلات تعمل بالكهرباء أو الطاقة النظيفة حفاظا علي البيئة من التلوث. وهناك أيضا تجربة السيارات ذاتية القيادة التي تسير اليوم في شوارع سنغافورة في طور التجريب قبل تعميمها والتي تسير بلا سائق ويتحكم بها الكمبيوتر الذي يرصد بدقة عبر كاميرات أمامية وخلفية كل ما يحدث علي الطريق وينفذ كل تعليمات المرور الخاصة بالسرعة واشارات المرور وتعرف السيارة الطرق جيدا فيكفي فقط ان تحدد لها اسم المكان الذي تريده عبر تطبيق علي هاتفك الذكي فيصلك الموعد الذي ستاخذك فيه من الشارع ثم تتوجه بك للعنوان الذي تريده في دقائق معدودة. وقد كان لي الشرف وكنت أول من يجرب هذه السيارة حيث لم يمض علي وجود شركة ديلفي المصنعة للسيارة في سنغافورة أكثر من 3 أسابيع. وبدأت تجارب التشغيل في شوارع سنغافورة. ومن أغرب الإستراتيجيات التي إستمعت إليها هي إستراتيجية وزارة النقل التي كانت الأولوية لديها هي تشجيع المواطنين علي المشي ثم ركوب الدراجات وأخيرا ركوب الأتوبيسات والسيارات ذاتية القيادة إذا اقتضت الضرورة. وإستكمالا لمنظومة الدولة الذكية والشوارع الذكية التي تتوافر بها خدمة الواي فاي في كل وقت وصندوق بريد يتلقي الطرود وصاحبها غير موجود ومكاتب للعمل في كل مكان تتوافر به خدمة الواي فاي وقاعات اجتماعات ومكاتب وماكينات طباعة ونسخ للملفات مع تقديم مشروبات مجانا في قاعات الأعمال المتوفرة الآن في 30 موقعا في سنغافورة في انتظار التعميم مستقبلا علي كل محطات القطارات والمطارات والمولات. ومن أفضل الحلول المتوافرة في شوارع سنغافورة عمود الكهرباء المتنقل الموصل بالواي فاي وتتواجد به كل الكابلات والأسلاك في كابينه ولا يحتاج الأمر لحفر الشارع لاجراء الإصلاحات أو تركيب عمود جديد في الشارع. وقبل أن نترك الشوارع الذكية يجب أن نتحدث عن سلات القمامة الذكية المزودة بمجسات حرارية موصلة بشبكة الانترنت التي ترسل إشارتها لعربة القمامة عندما تقترب السلة من الامتلاء فلا تسير عربات القمامة بعشوائية في الشوارع وتوفر الوقت والجهد بالمرور علي كل السلات. وطبعا لسنغافورة تجربة متميزة في إعادة تدوير القمامة وتنتشر سلات القمامة الخاصة بإعادة التدوير في كل مكان. أما محطات المترو فتسعي الدولة لانشاء خطوط جديدة وتتوافر بالمحطات ماكينات آلية للتذاكر وشاشات إرشادية تبين حالة الخطوط الأربعة الموجودة إذا كانت طبيعية أو مزدحمة كي لا يحدث تكدس بالمحطات. دكتور أون لاين يبلغ متوسط عمر الفرد في سنغافورة 82 عاما، ويحظي المواطنون برعاية صحية فائقة. ويوجد بها مستشفي متخصص هو الأول من نوعه للأطفال والأمهات فقط. وتحظي المستشفي العامة والعيادات بدعم وزارة الصحة. وتركزت الخطة المستقبلية للوزارة علي حل مشكلة زيادة عدد السكان وزيادة الطلب علي الخدمات الصحية.. ووضعت الوزارة خطة للوصول للمرضي في أي مكان وأي وقت. فلا يذهب للمستشفي غير الحالات الحرجة التي تحتاج للعلاج داخلها أو التي تحتاج لجراحات. لذا تم تزويد المستشفيات بالأنظمة الذكية والروبوت للمساعدة في العمل. وقد شاهدت تجربة حية كيف يتواصل الدكتور مع المريض عبر جهاز التابلت حيث يظهر الطبيب للمريض عبر كاميرا التابلت ويتم الكشف عبر أجهزة متقدمة موجودة مع المريض تقيس العلامات الحيوية للجسم وتقدم المعلومات للطبيب دون أن يسأل ويستفسر منه. وبناء عليه يصف الطبيب الدواء ويأمر بصرفه للمريض ويتم إرساله إلي عنوان منزله. وبناء عليه تقلل الوزارة من فكرة الازدحام أو التكدس في العيادات والانتظار لساعات طويلة وكذلك يتم توفير الدواء للمريض في وقت قياسي. وتعتمد المستشفيات علي عدد من المجسات الحرارية المختلفة للمرضي والأطباء والعاملين تسهل من عملية التواصل والاستدعاء في أي وقت وتحمي الأطفال من حوادث السرقة أو الخطأ في تحديد هوية الأم والأب. وبحلول عام 2030 تسعي الحكومة لتحسين الطاقة بنسبة 35 % وزيادة فاعلية إعادة تدوير القمامة لتصل لنسبة 70% وتوفير استهلاك المياة وتوفير مساحات خضراء وزيادة الزراعات فوق المباني. وحث المواطنين علي المشي وركوب الدرجات واستخدام الأتوبيسات خلال ساعات الذروة. عربي وهندي وصيني إذا ذهبت إلي سنغافورة وأردت أن تتعرف علي تاريخ هذا البلد الفريد من نوعه وتشاهد تعدد الثقافات واللغات فيجب أن تزور ثلاثة شوارع هي شارع العرب والشارع الصيني والشارع الهندي ففي شارع العرب ستري سنغافورة العربية عبر مبانيها التراثية ومسجد السلطان الشهير الذي يقع في نهاية الشارع. حيث تتواجد محلات عربية علي الجانبين وتتواجد مطاعم لبنانية وتركية وسورية وكانت هناك مقاهٍ مصرية قبل سنوات ولكنها لم تعد موجودة الآن. وفي الشارع الصيني ستجد كل المباني وقد اتخذت شكل المباني الصينية وتمتلئ المنطقة بالمتاجر الصينية. ومن ابرز المعالم هناك شارع الأموات الذي ستجد في أوله المسجد الأخضر واحدا من أقدم المساجد في سنغافورة الذي يعود تاريخ بنائه لعام 1827م وبناه المسلمون التاميل القادمون من الهند. وبجواره يوجد معبد سري ماريمان وهو أقدم معبد هندوسي في سنغافوره وتقام فيه حفلات الزواج للهنود. وبعد خطوات قليلة نجد المعبد والمتحف البوذي الذي بني عام 2007 وتكلف بناؤه 75 مليون دولار سنغافوري وبه نحو 320 كيلو جراما من الذهب. وكل من هذه الأماكن يمتلئ بالسنغافوريين كل حسب ديانته. وأخيرا استكملت رحلتي في الشوارع بالمرور علي الشارع الهندي الذي امتلأ هو الاخر بالهنود والبضائع الهندية. وكان هناك مهرجان النور حيث زينت المنطقة بالانوار والزينة الهندية المميزة. وبذلك تكون كمن زار ثلاث دول مختلفة في مكان واحد وهذا ما لن تجده في أي مكان آخر غير سنغافورة. سكن وتعليم للجميع من أهم الملفات التي توليها الدولة اهتماما كبيرا ملفا الاسكان والتعليم فبالنسبة للإسكان تتوافر مشاريع الإسكان الاجتماعي التي تمولها الدولة بشكل كامل لكل من يسكن في شقق صغيرة من غرفة او غرفتين وتشارك بجزء في الشقق الاخري كبيرة المساحة ويتم شراء الوحدات عبر أنظمة تقسيط مريحة تمتد ل 20 عاما. وهناك مجتمعات سكانية جديدة سينتهي العمل بها بعد 3 سنوات. لذا ستجد كل عمارات سنغافورة شاهقة الارتفاع بها أكثر من 60 دورا ومليئة بالشقق المتنوعة المساحات. أما ملف التعليم فهو شيء يستحق الفخر بحق لأن نهضة سنغافورة إعتمدت بشكل أساسي علي التعليم الجيد حيث يحصل التعليم علي نسبة 20% من ميزانية الدولة فهو مشروع قومي. وبنيت فلسفة التعليم هناك علي المعلم وشعارهم: معلم يقود.. معلم يهتم.. معلم يلهم. أما الهدف من التعليم الذي تتبناه الدولة فهو أن يحصلوا علي مبدعين للمعرفة وليس مجرد مستهلكين لها. مخططون ومديرون من بيئات التعلم، وليس مجرد منفذين.. شخصيات متميزة وليس مجرد مشاركين، وأخيرا قادة للتغيير التربوي، وليس مجرد أتباع. ويتم إعداد المعلمين في برنامج لمدة سنتين في الكليات التقنية. وهناك قواعد صارمة يخضع لها كل من يريد أن يعمل في مهنة التدريس فيخضع المعلم لاختبارات كثيرة تقيس في مجملها قدرته علي التعامل مع الطلبة وإحداث التغيير في شخصياتهم للأفضل والتأكد من قدرته علي تعليم ذلك التلميذ الذي سيصبح في الغد مواطنا ذكيا يعيش في بلد يتغير كل يوم بفعل التكنولوجيا. وهناك تنوع في مدارس سنغافورة بين مدارس عامة وأخري خاصة وثالثة دولية واخيرا مدارس دينية. ورغم هذا التنوع يحصل الجميع علي تعليم متميز ويتم تقسيم الطلبة في عدة سنوات دراسية وفقا لاهتماماتهم ودرجات تحصيلهم الدراسي. ومن أهم المواد التي يدرسها الطلبة في المرحلة الابتدائية مادتا الأخلاق والتعليم الصحي. وتتبني الدولة برنامجا لتعليم الموهوبين منذ عام 1984 لتلبية احتياجات الطلاب المتفوقين عقليا وعلميا. ومن أقدم المدارس في سنغافورة المدارس الإسلامية التي أنشأها المسلمون الأوائل عندما هاجروا لسنغافورة والتي تهتم بتدريس العلوم الإسلامية إلي جانب الرياضيات والعلوم واللغات. ويوجد الآن 6 مدارس إسلامية 2 منها مخصصتان للفتيات فقط. ومن اشهرها مدارس السقاف العربية والجنيد الإسلامية. وقد لعبت هذه المدارس دورا تاريخيا هاما في فترة استقلال سنغافورة بينما يرجع تاريخ إنشائها لأوائل القرن ال15 الميلادي وكانت تسمي بالمدارس القرآنية. وهنا أدركت بلا شك عظمة تاريخنا العربي والإسلامي وكيف وصل العرب والإسلام لجنوب شرق آسيا في أزمان مضت كنا فيها عظماء.