لم تحب أبداً شهر أغسطس، إذ تصحو كل يوم مبكراً كأنها تتفادي حرائقه؛ ثم تتكيء علي بعض الأغاني الخفيفة وهي تحتسي كوب الشاي باللبن وتحاول أن تفعل كل الأشياء المغايرة، فتطالع الصحف من اليسار إلي اليمين وتنظر خلسة إلي العابرين أمام حديقة بيتها القابع وحده وسط الأراضي الزراعية، ثم تبدأ موشح السخرية من أصحابها الذين يتغزلون في سماء أغسطس الزرقاء الصافية ومن قمر أغسطس الذي يبصرونه يرقص بمهارة، بينما تراه هي مثلها خائفاً ويشعر بالضجر. كانت تجلس في حديقة البيت وتمسك كوب الشاي وتشرد مع صوت ثومة، فيضان آسر من الرومانسية والقوة يلطشها ويجرفها إلي ذلك المكان العميق بداخلها، حيث يتضح لها أنها أكثر خفة وحرية فتسلم قلبها للغناء وتنسي شقيقها الصغير بجوارها. الصغير الذي غافلهم جميعاً وجاء فجأة فأكمل فيهم هذا الجزء الناقص الذي تفرك الدقائق والساعات تفتش عنه، في الفجر اتضح الأمر وأتي كالحلم، تتذكر ناجية أنهم لم يعيشوا وقتاً أشد التباساً من ذلك الفجر، صرخت أمها من التعب وأخذوها إلي الطبيب وعادت تحمل الصغير الذي دجن روحها البراوية، صارت صافية اللون والذهن وفازت بمجد الأمومة في اللحظة التي كانت تخطو فيها خطوتها الأولي علي درب الجامعة وتحاول أن تتخلص من تأتأة المشي إلي هدف واضح، ثلاث سنوات تروض نفسها وتلعب مع صغيرها، قطعة الصلصال التي أهدتها إياها السماء، تزرع معه شجرة الزيتون أمام البيت وهو يقلد صوتها المنفعل ويضحك، إلعبي معايا يانانا. قول لي ياماما الأول وأنا ألعب. لأ إنتي نانا. حوارها اليومي معه، حتي ذلك اليوم الذي إندفع نحوها وهو يتشبث بأطراف ملابسها: ما تخرجيش النهاردة. قالها وهو يبكي علي غير عادته، إنحنت قبلته وقالت: النهاردة بالذات لازم أخرج. وخرجت إلي مصير آخر، مرت بجامعة القاهرة وكانت مظاهرات حرب الخليج علي أشدها، كر وفر بين الطلبة والأمن وانحشرت داخل الجامعة حتي وقت متأخر فلم تستطع العودة وبقيت مع صديقتها القاهرية، عادت باكر اليوم الثاني لا تحس سوي بثقل في روحها، ترتاب في نظرة من صادفتهم عند مدخل البلد وهي تخترقها كالسهم، تلوح لهم من بعيد فيأتيها الرد غامضاً، كما تفعل السلحفاة البطيئة مشت وهي تتلفت حولها ولم تفسر ملامح هذه السيدة الضخمة التي أخذتها في حضنها وجرتها إلي البيت وهي تبكي، النساء بالأسود مرصوصات في مدخله ولم يستقبلها شقيقها ويقذف بنفسه في حضنها، تصرخ السيدة الغريبة: مات.