ذكرنا في المقال السابق البلاء الشديد الذي تعرضت له أم موسي حينما أمرت بإلقاء وليدها في اليم وصبرها عليه. وحرصها علي أداء ما أمرت به وهذا يذكرنا بابتلاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام في ابنه إسماعيل حين أمر بذبحه. وكأن الله سبحانه وتعالي يلفت انتباهنا إلي أن الصالحات من النساء يقع لهن من الابتلاء ما يكون مثيلاً أو قريباً مما يبتلي به الأنبياء والرسل. وأن أمر الابتلاء يأتيهن بإلهام. أو رؤيا كما يأتي به الله رسله وأنبياءه. وأنهن لا يتوانين عن تنفيذ ما يؤمرن به كما لا يتواني الرسل والأنبياء. إن الله سبحانه وتعالي الذي يعلم بما تكابده هذه الأم من آلام نفسية في هذا الامتحان لا يكتفي في طمأنة قلبها عند حدود التأكيد علي سلامة ولدها ورجوعه إليها. وإنما يزيدها اطمئناناً حينما يصب علي قلبها برد هذه البشارة بقوله: "وجاعلوه من المرسلين" القصص: من الآية: 7 ولعل لهذه التطمينات وتعقيبها بهذه البشارة ما يشير إلي أن الله سبحانه وتعالي يعلم ما في الأمومة من وهن وضعف. فأراد أن يقوي بهذه الأمور قلب هذه الأم القلقة المذعورة. وقد نبه الله إلي عظم الابتلاء الذي تعرضت له أم موسي بقوله في سورة طه: "إذ أوحينا إلي أمك ما يوحي" طه: 38. فالاسم الموصول "ما" أفاد أهمية وجلل ما أوحي به الله إليها. ثم يصور لنا القرآن الحالة التي أمر الله بها أم موسي أن تكون عليها عند وضعها لولدها في التابوت وإلقائه في اليم فيقول آمراً إياها: "أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل". فهو يطالبها أن تفعل ذلك في سرعة وخفية حتي لا تقع عليه عيون جواسيس وجنود فرعون المتربصين بأي مولود. فالسرعة جاءت من هذا العطف المتتابع بفاء. والخفية جاءت من اختيار لفظ "القذف" بدلاً من "الرمي". وذلك لأن "القذف" يصورها في هيئة من يخفي عمله. فهو يسرع في وضعه من يده كهيئة من يقذف حجراً ونحوه. ولا شك أن أمر الله لها بالسرعة والخفية في الرمي كان له أثره علي نفسية وشعور أم موسي. فملأها ذلك خوفاً وفزعاً علي وليدها. ولكنها علي الرغم من كل هذا لم تتردد في تنفيذ ما أُمرت به لأنها واثقة من ربها. ومن وعده لها. وما بشرها به من مصير مشرق ينتظر وليدها. ولكن الحنو والعطف الذي هو فطرة ركبها الله في كل أم لا يلبث أن يتغلب علي كل ما يمكن أن يحتويه قلب هذه الأم. وبخاصة عندما أتتها الأخبار بأن مركب ولدها قد استقر به المقام عند ألد أعدائه. فقد التقطه آل فرعون. وأصبح ما كانوا يبحثون عنه في كل بيت من بيوت مصر في أيديهم لينفذوا فيه إرادة فرعون. ويصور لنا القرآن الكريم هذه الحالة التي صارت عليها الأم في هذا الموقف بقوله: "وأصبح فؤاد أم موسي فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين" القصص: 10. لقد تحول قلب أم موسي من حالة الثبات واليقين التي كان عليها حين قامت بوضع ولدها في التابوت وإلقائه في اليم بكل رباطة جأش إلي حالة من الوهن والضعف لما علمت بمآله الذي انتهي إليه عند فرعون. قال ابن زيد وابن إسحاق: أصبح "فؤادها" فارغاً من تذكر الوعد الذي وعدها الله إذ خامرها خاطر شيطاني جعلها تقول بينها وبين نفسها : إني خفت عليه من القتل. فألقيته بيدي في يد العدو الذي أمر بقتله. ولكن الله الذي ركب في نفس كل امرأة هذه الفطرة يعلم ما يكابده هذا الفؤاد المكلوم لم يتركها وحيدة تواجه هذه المحنة وحدها بهذا القلب الواجف الذي فقد القدرة علي الثبات والصبر والمقاومة حتي كادت من شدة هلعها وفزعها أن تفصح عن مخبوئها وتبين عن سرها. لقد تداركتها العناية الإلهية فربطت علي قلبها لتكون في زُمرة المؤمنين. وهكذا يتجاوز الله برحمته وعفوه عن أم موسي التي لم تستطع المقاومة رغم الوعود التي وعدها الله إياها. لأنه يعلم أنها أم. وأن الأمومة ضعف وعطف وشفقة. وهكذا قدم لنا القرآن الكريم من خلال أم موسي نموذجاً للمرأة الأم وما يعتمل في قلبها من مشاعر وعواطف يصعب تجاوزها والتغلب عليها.