37 عاماً مرت علي اكتمال تحرير سيناء.. ما عدا طابا.. التي مر عليها 30 عاماً فقط.. فقد تأخر تحريرها بعد أن تعمدت إسرائيل عدم الجلاء عنها.. وزورت في موقع علامات الحدود لتضمها إلي إيلات.. ورغم أنهم كانوا يعرفون جيداً أن طابا مصرية.. ولكن مصر حررت الأرض حرباً.. وتفاوضاً.. وتحكيماً.. ومع هذا فكما قال الرئيس عبدالفتاح السيسي في كلمات له في أكتوبر الماضي.. الحرب لم تنته.. وإنما تغيرت رسائلها.. ونعيش سلاماً.. لن تتكرر فيه قصة السلام.. ولكن السلاح يحميه.. ونعود إلي كلمات إسرائيلية عمر بعضها يقترب من الأربعين عاماً.. تسجل اعترافهم بمصرية طابا.. وبالتالي تذويدهم لعلامات الحدود التي أكدتها هيئة التحكيم. "... لقد كنا نعرف أنها مصرية".. عبارة نطقها متحسراً روزيل شبطاي. المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية.. بعد صدور حكم التحكيم لصالح مصر في قضية "طابا". ".. أعرف أنها مصرية.. ولكن سنأخذها منهم.. ابدأ البناء.. وحاول الانتهاء منه بأقصي سرعة" كلمات قالها بيجن في نهاية السبعينيات. وقبل الشروع في بناء فندق "سونستا".. علي الأرض المصرية في طابا.. ونقلها لي كما سمعها منه. صاحب فندق سونستا.. وكان اسمه "باشادو".. وهو يهودي مصري من مواليد الإسكندرية وهاجر إلي إسرائيل منذ عام 1959.. وهذه الكلمات سمعتها منه في لقاء في مؤتمر سياحي بأمريكا في نهاية عام 1981.. وهي قصة تستحق أن تروي في الذكري الثلاثين لعودة طابا إلي الوطن.. وانتهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي حاول الاستيلاء عليها. في ذلك المؤتمر الذي واظبت علي حضوره عدة سنوات في أمريكا وكان يحمل اسم "باو.. واو" "Pow.wow" وهي كلمة هندية الأصل "الهنود الحمر" تعني "هيا تجمعوا".. وكان يجمع كل أطراف صناعة السياحة الأمريكية.. وفيه سمعنا لأول مرة تعبير "السياحة قاطرة التنمية".. التي انتقلت بعد ذلك إلي مصر في عهد الدكتور ممدوح البلتاجي الذي أطلقها لأول مرة عند توليه الوزارة.. أما أول مرة سمعتها فكانت في رسالة مصورة للرئيس الأمريكي الراحل ريجان وجهها إلي مؤتمر "الباواو". في ذلك المؤتمر عام 1981.. جاءني صحفي بريطاني صديق.. كنت التقي به كثيراً في مثل هذه المؤتمرات.. وقال لي.. أريد أن أعرفك علي شخص سيخلق لكم مشاكل في سيناء.. وبالفعل علي حفل عشاء في المساء. تعرفت علي "باشادو".. ومعه زوجته. وروي لي كيف أنه اقترح .علي رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجن أن يبني مشروعه داخل مساحة إيلات.. تجنباً للمشاكل بعد انسحاب إسرائيل تطبيقاً لمعاهدة السلام.. ولكن بيجن طمأنه.. وطالبه بالإسراع في بناء الفندق.. وقال له "لن نعيد هذه الأرض إلي مصر".. ولكني رددت علي "باشادو" بأن أرضنا ستعود إلينا.. وهنا ارتفعت نبرة "باشادو" قائلاً: لو حدث هذا فإنني "شاطق الفندق".. أي سأنسفه.. فكان ردي: إذن: انسفه من الآن..! وقبل أن ترتفع نبرة الحديث بيننا سارع الصديق الذي عرفني عليه بتغيير دفة الحوار إلي سؤاله عن موعد افتتاح الفندق.. وعما إذا كان سيدعوه للافتتاح.. فأجاب بأنه سيدعوننا معا لنشاهد الافتتاح..!! ما حدث بعد ذلك أن هذا الفندق دخل ضمن مفاوضات الانسحاب من طابا.. ولم ينسفه صاحبه كما كان يقول.. بل بالغ كثيراً في تقدير ثمنه في المفاوضات التي قادها فؤاد سلطان وزير السياحة في ذلك الوقت والتي استمرت حتي الساعات الأخيرة من الانسحاب الإسرائيلي من طابا في الخامس عشر من مارس 1989.. ومع ذلك اضطرت مصر أن تدفع الثمن الذي طلبه "باشادو" بعد محاولات مضنية للوصول إلي سعر مناسب.. وأصبح الفندق مملوكاً لشركة "طابا للتنمية السياحية" التي أنشأتها مصر للطيران ورأسها المهندس محمد فهيم ريان رحمه الله.. والذي تعرض خلال رئاسته اجتماعاً لمجلس إدارة شركة طابا عقد في الفندق الذي حمل اسم هيلتون بعد ذلك. إلي حادث إرهابي في محاولة لنسف الفندق.. وأصيب فهيم ريان.. إصابة أدت إلي وفاته فيما بعد متأثراً بجراحه. أتيح لي أن أشهد خروج آخر جندي إسرائيلي من طابا في 15 مارس 1989.. وإنزال العلم الإسرائيلي علي نقطة الحدود الفاصلة بين طابا وإسرائيل وارتفاع العلم المصري لتدمع عيوننا جميعاً.. دموع الفرح.. أما المجندات والجنود الإسرائيليون فكانت دموعهم وصراخهم دموع حسرة علي الحلم الذي عاشوه.. حلم الاستيلاء علي الأرض واغتصابها لتوسيع إيلات التي يضيق شاطئها عن استيعاب الحركة السياحية أو استيعاب أحلامهم المستقبلية في توسيع حركة ميناء إيلات لأسباب مختلفة.. وقد تم بعد ذلك بأربعة أيام الاحتفال برفع العلم المصري في موقع تم تمهيده في وسط طابا.. وكانت الأيام الأربعة لدعوة ممثلي كل فئات شعب مصر لحضور الاحتفال الذي قام فيه الرئيس الأسبق حسني مبارك برفع العلم علي طابا في 19 مارس 1989.. وهو اليوم الذي تحتفل فيه محافظة جنوبسيناء ومصر كلها بعيد استرداد طابا.. ولذلك كنت ومازلت أعتقد أن من الأوفق أن يتم الاحتفال في اليوم الحقيقي لخروج آخر جندي إسرائيلي من طابا.. في 15 مارس 1989. ولاشك أن معركة استرداد طابا عن طريق التحكيم كانت نتاج عمل جماعي شارك فيه أساتذة القانون والتاريخ والدبلوماسيون والعسكريون.. واستطاعت مصر أن تجمع الوثائق التي أثبتت حقها في طابا.. وتحديد موضع العلامة 91. التي حاولت إسرائيل تغيير موقعها لكي تضم إليها طابا.. وهي لم تفعل ذلك فقط في العلامة 91. وإنما في عدة علامات أخري.. تشمل العلامات 7. 17. 27. 51. 52. 85. 86. 87. و88 وقد حاولت إسرائيل من خلال تغييرها مواقع هذه العلامات التوسع في سيناء.. ولكن حكم التحكيم الذي صدر في 29 سبتمبر 1989 أنصف مصر.. وأخذ بما قدمته مصر من مستندات أثبتت مواقع هذه العلامات.. وقد جندت مصر علماءها وعسكريها لإثبات المواقع التي حرفتها إسرائيل واستعانت ايضا بشهادات عدد ممن خدموا في قوات الطوارئ الدولية في سيناء وبوثائق جمعتها من أماكن مختلفة حول العالم منها تركيا. حيث كانت وثائق أزمة طابا الأولي في عام 1906 والتي تم فيها لأول مرة ترسيم حدود مصر الشرقية الفاصلة بين سيناء وولاية الحجاز وولايات الشمال. التابعة في ذلك الوقت للخلافة العثمانية والتي كانت تطمح لنزع سيناء من مصر فضلاً عن تعديلات في الحدود الفاصلة بين مصر والحجاز وفلسطين.. ولكن مصر في ذلك الوقت الذي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني استطاعت أن تنهي هذه الأزمة لصالحها.. والتي توافقت فيها المصلحة المصرية مع المصلحة البريطانية. التي كانت تهدف إلي حماية قناة السويس. من ناحية ومواجهة الأطماع العثمانية من جهة أخري. ولكن إذا كانت هذه الأزمة قد انتهت لصالح مصر.. وقضت علي الأحلام العثمانية بنزع سيناء من مصر. فإنها بالتالي لم تمنح سيناء لمصر.. وإنما هي أقرت واقعاً حدودياً مصرياً مستقراً منذ فجر التاريخ وقبل أن تظهر الأمبراطوريات التي تصارعت حولها.