عين سحرية تمثل كل الأمان من الطارق المجهول علي أسرة توراجليتش المعروف بموقفها المعادي للحكم الشيوعي في يوغسلافيا وفي يوم يقتحم البيت ضابطة لتنفيذ تمكين الفقراء من أملاك البرجوازيين..فيكون علي الأسرة اقتسام شقتها مع أسر أخري..تعيش في 3 غرف مريحة كما يصفها القرار بينما تغلق الأبواب علي جانب آخر لم يعد لهم وعشرة مفروضة مع غرباء صاروا جيرانا في نفس الشقة لمدة 70 سنة يراقبونهم من عين سحرية مقابلة حيث يسود التوجس والتحفظ في علاقات الجميع. بيت قديم يعود لبداية يوغسلافيا وينبئ في الوقت ذاته بما آلت إليه بعد انقسامها إلي صربيا ودول أخري هذا هو موضوع الفيلم التسجيلي الصربي "الجانب الاخر من كل شيء" إنتاج 2017 للمخرجة ميلا توراجيليتش الشاهدة علي الحياة المقسمة التي عاشتها كبلدها وتحاور في فيلمها أمها صربيانا توراجيليتش الأستاذة الجامعية والتي كانت طفلة لا يتجاوز عمرها العامين عند تقسيم البيت والآن تخطت السبعين عاشت كل تحولات وطنها وشاركت فيها ومازالت -رغم التقاعد- مؤمنة برسالة الأستاذ الجامعي ومسئوليته في وطن يسعي للديمقراطية. عُرض الفيلم للمرة الأولي في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي 2017 كما حصل علي جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل في مهرجان أمستردام للأفلام التسجيلية "أدفا" في العام نفسه وشاهدناه مؤخرا ضمن بانوراما الفيلم الأوروبي ال11. تأخدنا المخرجة في رحلة ذكية تستغرق 100 دقيقة بين المشهد العام في صربيا والمشهد الخاص في البيت لنطل علي الجانب الآخر من كل شيء بدءاً بالبيت الذي أجادت تصويره لتجعله عالما قائما بذاته علي الشاشة طاغيا بحضوره ومثيرا للتساؤلات بعد التأمل"صورت الشقة بتفاصيل الأثاث والديكور.. تنطق بالتاريخ في اللوحات المعلقة والصور الأسرية والمقتنيات القديمة. كما أظهرت لنا أدوار البيت.. بهوه الواسع وممراته الضيقة.. قدمت الخاص بأسرتها وعين كاميرا سحرية تطل علي الآخر من الجيران وخصوصا الأسرة علي الجانب الآخر التي قاسمتهم الشقة وبذكاء لم تكتف بالبيت كمبني بل استثمرت موقعه المهم بالقرب من السفارات الأجنبية والتي جعلته علي مدار السنوات قريبا من أحداث الاضطرابات في بلد شهد حربا أهلية في التسعينيات ثم عقوبات دولية وضرب لأراضيه وصولا إلي ثورة علي رئيسه سلوبودان ميلوسوفيتش في 2000 وحتي الانتخابات الأخيرة في 2015 التي جاءت بأحد فلوله للحكم ليعكس الموقع الزخم من انغماس الشعب في قضاياه وحتي اليأس بازدياد طلبات الهجرة من السفارات الكبري. يتساءل المشاهد هل الفيلم مجرد محاولة من المخرجة عرض تاريخ بلدها من خلال المكان الذي عاشت فيه كما قالت علي الموقع الالكتروني للفيلم ؟ أم هو سيرة ذاتية للأم المناضلة التي تشارك البيت البطولة يرصد علاقتها ببلدها عبر قصة البيت المقسم واقعيا ومجازيا؟ أم هو عن علاقة الأم الأستاذة والناشطة السياسية بابنتها المخرجة.. بحميميتها التي تظهر من خلال حواراتهما طوال الفيلم..الابنة تسأل والأم تجيب وتتعاون لإنجاح الفيلم بينما تعتذر الابنة "هل أعذبك"؟ فتجيب الأم "بل استمتع بقضاء الوقت معك "وهي هنا ليست مجرد علاقة أمومة وبنوة بل جسر بين جيلين.. جيل عاش ظروف التسعينيات الصعبة وعاني منها وثار عليها وجيل ورث الظروف فهل يرث الثورة؟ هو بالتأكيد فيلم عن المخرجة التي لم تكتف بموقعها خلف الكاميرا بل كانت الصوت الذي يحاور الأم وأحيانا يفكر معها...تكسر الإيهام بظهورها بشخصها تغير الشريط أو تقوم بالمونتاج وقبل النهاية تقف في النافذة حائرة أو متأملة ..تسجل بالكاميرا لقاءات الأسرة حتي المكالمات التليفونية وتحاور الجيران وأحيانا تلتقط مشاهد تبدو خارج السياق "الشخصي" للفيلم لكنها دالة في السياق "الاجتماعي والسياسي" كرجل المرور غير القادر علي تنظيم الحركة أو العامل دون حماية الذي يتسلق البناء المرتفع. يمزج الفيلم في سلاسة بين اللقطات الأرشيفية للأحداث السياسية وما صورته المخرجة بنفسها من نافذة البيت خلال 10 سنوات تعلق عليها الأم بحسها الساخر لتصنع ألفة تقلل غربة المشاهد غير المطلع علي الأحداث السياسية ودمجت المخرجة بين الحوارات التلقائية و لقاءات الأم المسجلة لتعزز الانطباع بصدق الشخصية كما حرصت علي استخدام إشارات زمنية لعدم تشتيت المشاهد غير الملم بالتطورات التاريخية وحافظت علي تماسك السرد رغم تعدد الفلاش باك. جاء توظيف الصور الفوتوغرافية والوثائق والخرائط أدوات الأفلام التسجيلية كمحرك للتطور الدرامي وليس مجرد حشو للتأريخ ونجحت الموسيقي في منح الفيلم لحظات عاطفية كانت ذروتها في الأغنية الوطنية الرومانسية في عز الحرب الأهلية! يمتلئ الفيلم بالتفاصيل الانسانية والأفكار السياسية ويطمح كعنوانه في إظهار "الجانب الآخر من كل شئ" وهي غاية لا تُدرك لكنه علي الأقل أظهر لمشاهده فئة من الصرب رفضت مجازر ميلوسوفيتش في البوسنة سامحا له بالإطلالة عبر عين سحرية لباب مغلق علي بلدان بعيدة تفتحه السينما تسجيلية أو روائية في انتظار مشاهد مهتم توجهت له بانوراما الفيلم الأوروبي وربما أضافت إليه.