عشت نمطين من الحياة. حياة الريف. وحياة الحضر أو المدينة. بون شاسع وفارق كبير بين حياة الريف التي عشتها منذ ما يزيد علي 45 عاماً. وحياة الريف التي أشاهدها كلما زرت قريتي "تونا الجبل" بين الفينة والفينة. عندما تفتحت عيناي علي الحياة في أوائل الستينيات من القرن الماضي. وجدت نفسي أعيش في تجمع سكاني صغير يسمونه "قرية" تنطبق عليه كل مواصفات ومقاييس الريف. كانت هذه القرية قليلة الكثافة السكانية. كل سكانها باستثناء عدد محدود من المتعلمين يعملون بالزراعة. كل أبناء القرية يعرفون بعضهم بعضاً معرفة شخصية.. كانت بيوت القرية. أو معظمها مبنية من الطوب "اللبن" ومسقوفة بجريد النخل. وجذوعه. كان الناس ينامون في العشاء ويستيقظون قبل الفجر. كان بالقرية مكان فسيح للأجران بين الكتلة السكانية والزراعة. وبها سوق للبهائم علي أطراف القرية أمام الجبانة. كانت القرية تفيض باللبن والعسل والزبد واللحوم.. لم يكن في بيوت الفلاحين ثلاجات أو أجهزة تلفاز. أو أطباق لاقطة. كانت الكهرباء لا تأتي إلا من ماكينة لمدة ساعتين. كانت القرية مقسمة إلي "بدنات" وهي مجموعة عائلات أصغر من القبيلة. كل بدنة تسكن عدداً من الحارات الضيقة مسدودة النهايات. كل بدنة لها مضيفة تجتمع بها في المناسبات. وحين يتعرض أحد أفرادها لاعتداء من بدنة أخري. مازلت أتذكر أن الغيطان كانت تترامي علي مد البصر. براحاً شاسعاً يفيض خضرة ونضارة. وأسراب العصافير بزقزقاتها الجميلة تقطع الأفق من كل الاتجاهات تحت سُحُب بيضاء وسماء زرقاء.. مع الغروب تري آلاف البهائم عائدة من الحقول ممتلئة البطون لتدر في المساء من بين فرثي ودم. لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. هذه الصور والمعالم التي لا تزال محفورة في ذاكرتي اختفت من القرية اليوم. كل البيوت القديمة أعيد بناؤها بالطوب والأسمنت.. أصبحت بيوت معظم سكان القرية أنظف وأكثر شياكة من شقق المدينة. اختفي الأفق الأخضر لأن المباني الجديدة أكلت المساحات الزراعية. انتشرت المحلات التجارية بكافة أنواعها.. الأضواء تتلألأ حتي الصباح. والمقاهي تزدحم بروادها في كل شارع. الشباب العاطل يتسكع في الدروب والحواري. لأن المساحة الزراعية ضاعت. ولم تعد تستوعب كل هذه الأعداد. باختصار لم تعد القرية مصدر الغذاء والمواد الخام التي تقوم عليها معظم الصناعات.. بل لم تعد القرية تنتج غذاءها. إنما تأكل اللحوم والمواد المستوردة من الخارج.. فقد نمت فيها الأنشطة الهامشية المعروفة مثل أعمال السمسرة. والتجارة. والمضاربة.. ولهذا نجد رياح التحضر الزائف قد هبَّت علي القرية بعد أن فقدت هويتها الحقيقية. حال القرية اليوم يدعو إلي مزيد من الدراسة والتشخيص والتحليل لرصد الظواهر الجديدة والغريبة الطارئة عليها.. يجب أن توضع في بؤرة اهتمام السلطتين التنفيذية والتشريعية من أجل وضع القوانين التي تعيد للقرية مكانتها.. وإذا كان من الصعب إعادة القرية إلي وضعها القديم.. فإن الحل يكمن في نشر الصناعة والصناعات الصغيرة بالقري. وإقامة المصانع في القري ذات الظهير الصحراوي. لامتصاص العمالة الزائدة وتحقيق الأمان للقرية المصرية.