وراء معجزة الصين المبهرة ونهضتها الصاعدة أسباب وأسرار كثيرة وعجيبة مازالت تتكشف حتي اليوم لكن أهم هذه الأسرار ستة علي الأقل هي: المواطن الصيني نفسه وما يتحلي به من انضباط ونشاط وحب للعمل إلي درجة الإدمان.. فالإنسان الصيني حسبما رأيت خلال فترة عملي معهم بوكالة الأنباء الصينية ببكين يعمل حتي الظهيرة ويتناول الغداء ثم ينام قليلاً ويستيقظ حتي الغروب والعمل عند الإنسان الصيني هو أمجد الأشياء وأعزها وأعظم أنواع السلوك فالإنسان مخلوق للعمل وطبقاً للفكر الصيني فإن انحرافات الحياة أربعة هي المظهرية والبيروقراطية وإدمان المتعة والبذخ والتبذير ويندهش المرء حينما يعرف أن المجتمع الصيني يتحلي بالفضيلة والخلق الكريم وخلال فترة الثمانينيات والتسعينيات كانت الصين خالية من الأمراض الجنسية لعدم شيوع الفاحشة. الثقافة الصينية وجوهرها التناغم والانسجام وقوامها وروحها الوطنية وحب الوطن وعلي هذا الأساس يعيش المجتمع الصيني المؤلف من عشرات القوميات والاثنيات في وئام ومعظم الصينيين يدينون بديانة اسمها الطاوية تقوم علي تقديس العمل والعلم. وعندهم أن السعادة لا تهبط من السماء إنما تتحقق بالعمل والعطاء وحفز الناس علي التسابق إلي الخير والاقتداء بأصحاب القيم. إرادة التقدم وديمقراطية القرار والسيطرة علي الموارد.. تشكلت لدي القيادة الصينية منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي إرادة قوية وصلبة وعزيمة لا تلين بتقدم الأمة الصينية وقاد تجربة الإصلاح وعملية التقدم في باديء الأمر الزعيم الراحل دنج شياو منج الذي ألف كتاباً أسماه "قوة عظمي ثالثة" وتوارثت القيادات الصينية المتعاقبة هذا الفكر القائم علي ضرورة أن تساهم الصين في الاقتصاد العالمي بقدر تعداد سكانها: ونجاح الصين الحالي ليس من صنع قرارات فردية فعملية صنع القرار يمكن وضعها ب "المركزية الديمقراطية" كانت عملية صنع القرار علي النمط السوفيتي القديم تهتم بالمركزية أكثر من الديمقراطية لكن هذا الأمر تغير وعلي سبيل المثال فإن القرارات الخاصة بخطط التنمية تستغرق أكثر من عام من المشاورات المكثفة والتفاعلية علي مختلف مستويات الدولة. وتتلقي عملية صنع القرار مدخلات واستشارات من مؤسسات الفكر والرأي والجامعات والعلماء البارزين وغيرها وهكذا يعكس القرار النهائي توافقاً واسعاً داخل المجتمع الصيني أضف إلي ذلك أن الصين دولة كبري غير خاضعة لقوي أخري وبالتالي فهي تسيطر علي مواردها. أما السر الآخر المهم وراء نهوض الصين فهو التطور المذهل الذي حققته الصين في مضمار التربية والتعليم من أدني المراحل إلي أعلاها ولولا النهضة التعليمية في جميع المراحل ما تمكنت الصين من عبور وتجاوز مرحلة تقليد ومحاكاة ما لدي الدول الغربية المتطورة وكان أسلوب الصين في التعليم هو أن تشتري أي منتج وتفككه كي تتوصل إلي مكوناته الأساسية وتحاول إعادة تصنيعه وفي الحالات التي لم تنجح بها اضطرت إلي شراء المعرفة بأغلي الأثمان ولكنها أخذت هذه المعرفة وأضافت إليها وطورتها بطريقة تفوقت بها علي المصدر الذي باعها لها أصلاً وعلي سبيل المثال تمتلك الصين اليوم أرقي وأسرع شبكة قطارات في العالم أرقي وأسرع من قطارات اليابان وفرنسا كما طورت الطائرات التي كانت تقوم بتجميعها فقط. إن القفزة التي حققتها الصين تحيِّر الألباب في الغرب والشرق علي السواء وهناك من يتوقع أن تحكم الصين العالم بعد عقد من الزمان وها هو النفوذ الصيني يتزايد في إفريقيا علي نحو يثير قلق أمريكا ويقوض نفوذها.