دق جرس المحمول. والمتحدث علي الطرف الآخر.. الصديق عبدالقادر شهيب. * الباقية في حياتك!! مَن؟!! * رد وهو يحاول أن يبدو متماسكاً: الباقوري! .. يا اللَّه.. اعتدنا علي سماع تلك العبارة في السنوات الأخيرة.. عند رحيل أحد أبناء جيلنا. الذي نما وعيه مع ثورة يوليو.. صدَّق شعاراتها.. وثق في قياداتها. عاش أفراحها.. وأتراحها. انتصاراتها.. وهزائمها. أخطأ وأصاب.. ولكنه في كل الأحوال لم يعرف عن الإخلاص بديلاً. جيل تجاوزت أحلامه عنان السماء. في أن تحقق الثورة العدالة الاجتماعية. وأن يحصل الفقير علي حقوقه في حياة كريمة. توفر له حق العمل والتعليم والعلاج. ودخل يحمي كرامته ويكفيه شر السؤال. أُلحق خريجو جامعاته ومعاهده العليا. بقواتنا المسلحة. قبل أن يحصلوا علي الوظيفة. وقضوا أكثر من خمس سنوات علي جبهات القتال. ليزيلوا عن مصر عار الهزيمة.. دون أن يتململوا.. أو يتعجلوا نشوب المعركة.. التي لم يكن أحد يعرف.. متي ستبدأ.. وكيف ستنتهي؟!! ومن بين أبناء الجيل. طليعة حاولت تصحيح مسار الثورة. وكان مصيرها السجون والمعتقلات. ليقضوا بها أجمل سنوات العمر. جيل دافع عن حقوق المواطنة. وألا يتم التفرقة بين المصريين علي أساس الدين.. أو الجنس.. أو الطبقة. كل تلك الأحلام أحبطت. العدو الرئيسي للأمة العربية صار صديقاً. جحافل الجماعات السلفية خرجت من جحورها تحت حماية الدولة بهدف القضاء علي الشيوعية!!.. فمارست أبشع أنواع العنف ضد المواطنين.. وكفَّرَت شركاء الوطن المسيحيين. انتُهِكَ شعار "العدالة الاجتماعية" تحت شعار الانفتاح.. وتحالُف السلطة مع رأس المال. ولم يعد لأصحاب الأحلام الوردية مكان علي أرض مصر. أجبروا علي العمل في دول أجنبية أو شقيقة. ليس بحثاً عن المال. إنما عدم القدرة علي التصدي لتلك القوي الغاشمة. كتب أحدهم في وصيته "أريد أن أدفن في تراب مصر. لأنه الأكثر حناناً علي الأموات. بينما رمال الصحراء ثقيلة". اعتقدوا أن غربتهم لن تطول. فامتدت سنوات عديدة. وهم يحلمون بالعودة.. واستعادة أحلامهم المحبطة. * * * منذ أسابيع قمنا بزيارته. في شقته التي لم يستبدلها منذ أكثر من أربعين عاماً. عبدالقادر شهيب وأنا. فاجأنا باستقبالنا خارج الشقة. وكانت مفاجأة سعيدة حقاً. خاصة أنني قمت بزيارته في المستشفي بالتجمع الخامس قبلها. ولم تكن حالته الصحية مشجعة. كان في أفضل حالاته.. ذاكرة جيدة. لم يهزمها المرض. قدرة فائقة كعادته علي تحليل أحداث الساعة في الوطن العربي. استعادة ذكريات الدراسة مع شهيب في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. ألمح إلي حوار دار بيننا في لقاء سابق. تعليقاً علي مقال كتبته عن الصديق صلاح عيسي. يتضمن وقائع حدثت في "الجمهورية".. وتعمدت أن أشير إلي أشخاص دون ذكر الأسماء. وكان رأيه أن ذكر الأسماء ضرورة. حتي يتحمل كل إنسان مسئوليته. وكانت ملاحظته الثانية. أن ذكر تلك الوقائع لا يجب أن يرتبط بوداع الزملاء. إنما يجب تسجيلها قبل فوات الأوان. خاصة أن من بين شهودها مَن رحل. ومَن مازال يقاوم المرض. وطلب من شهيب كتابه الأخير الذي تضمن مسيرته عبر نصف قرن. وقد أرسله بعد أيام مع الزميل سيد حسين. بينما وعدته أن أبدأ في رواية الوقائع التي كنت شاهداً عليها. دون ارتباط برحيل الزملاء. خاصة أنه كانت له مواقف يجب أن يعرفها أبناء هذا الجيل. ولم أستطع الوفاء بالوعد.. وها أنا أذكر بعضها في وداعه. * * * بعد أن استتبت أمور الحكم للرئيس أنور السادات. وتخلص من خصومه السياسيين من رجال عبدالناصر. الذين وصفهم ب"مراكز القوي" بدأت حملة شعواء ضد العهد الناصري. شارك فيها سياسيون وإعلاميون منهم مَن اعتاد تغيير المبادئ كما يغيرون ملابسهم.. وجرحي النظام الناصري الذين أضيروا من القرارات الاشتراكية. ومن كان يبحث عن دور داخل نظام السادات. كانت مواجهة هذا التيار العنيف تحتاج إلي رجال لا يخشون في الحق لومة لائم. ولا يستجيبون لإغراءات السلطة. ويعلنون مواقفهم حتي لو كانت تخالف أصحاب الأصوات العالية. وكان منهم مصطفي بهجت بدوي.. الشاعر والضابط السابق بالقوات المسلحة. تسانده كتيبة من الشباب الوطني المخلص. الذين فاجأوا الوسط الصحفي بقدراتهم المهنية العالية. ومواقفهم السياسية التي تكلف من يعلنها مستقبله المهني. في ظل تلك الحملة المجنونة التي كانت تصف كل صاحب رأي حر.. بأنه شيوعي. ولا يجب عزله فقط.. إنما محاكمته أيضاً!! حاول كل أفراد تلك الكتيبة الرد علي خصوم التجربة الناصرية. كل في مجال تخصصه. وكان عبدالعال الباقوري القومي العربي.. والمثقف الواعي بأهمية انتماء مصر إلي بعدها القومي. تصدي للهجوم الشرس علي السلطة الفلسطينية والادعاء بأن مصر كانت تخوض حروباً لا ناقة لها فيها ولا جمل. دفاعاً عن الفلسطينيين الذين فرَّطوا في أراضيهم.. و.. و.. وادعاءات لا أول لها ولا آخر. بينما كان الباقوري.. يقدم الوثائق التاريخية التي تؤكد وجهة نظره.. في أن مصر كانت تحارب دفاعاً عن أمنها القومي. وكتب مصطفي بهجت مقالاته التاريخية. بعنوان "تعالوا إلي كلمة سواء" يحذر الرئيس السادات من نتائج الصدام مع مبادئ عبدالناصر.. وأنه امتداد يكمل مسيرته. ولم يعد يطيق النظام صبراً علي الرجل وأفراد كتيبته. وأعلن عن اختيار الصحفي الموهوب محسن محمد لينفذ سياسته. وفي الليلة التي سبقت وصول رئيس التحرير الجديد. تم الاتفاق بين عدد من الصحفيين منهم مَن كان يري أنه الأحق برئاسة التحرير من بهجت بدوي. مثل إبراهيم الورداني. وأغلبهم من الراغبين في تقديم مسوغات اقترابهم من القادم الجديد. اتفقوا علي شن حملة في الصباح.. وصفوها بأنها "حملة تطهير".. لإخلاء الصحيفة من الشيوعيين!!.. وبدأوا بمكتب الباقوري. ربما كانت مصادفة. أو لأنه شخص مهذب. يسهل التعامل معه. وعندما اقتحم الورداني المكتب. فوجئ بما لم يكن يتوقعه. تحول الباقوري إلي شخص آخر.. علي استعداد لمواجهة العنف بالعنف. قال الورداني.. لم يعد في "الجمهورية" مكان للصغار. ورد الباقوري.. نحن كُتَّاب كبار.. والصغار هم الذين يستخدمون سلاح البلطجة. بدلاً من استخدام العقل والمنطق. أفشل موقف الباقوري.. خطة جماعة المنتفعين. ولم يقتحموا أي مكتب من المكاتب التي كان مخططاً اقتحامها. وظهرت بينهم أصوات تدعو إلي التوقف عن تنفيذ الخطة "طالما أن بمقدورنا عزلهم". * * * جاء رئيس التحرير الجديد. تسبقه سمعته الجيدة في قدراته المهنية العالية. وخبراته في صناعة الصحف. وتميز بصراحته المطلقة مع كل الذين حاول اجتذابهم للعمل معه. وخصص لكل منهم جلسة مطولة.. تبدأ غالباً بعد صدور الطبعة الأولي. وحدد بوضوح خطته القادمة.. التي تتلخص في: * أنه مفوض بالتخلص من كل صوت يعارض تصريحات الرئيس.. ولن يتساهل في تنفيذ التفويض. * أنه لو لم يقبل أداء المهمة.. لرحب بها أشخاص آخرون. كانوا علي استعداد لفصل كل معارض. لذلك قبلها. * أن الشاعر الذي كان رئيساً للتحرير. لم يقرأ التاريخ الفرعوني. وأن كل حاكم جديد يزيل إنجازات سابقه. ولا يسير علي خُطاه. * أنه يقدر شخص خالد محيي الدين. الذي منحه فرصاً عديدة في "الأخبار". ومازال علي علاقة طيبه به. وقد تلقي منذ أيام هدايا من الفاكهة من مزارع محيي الدين. ولكن الرئيس السادات لا يريده.. فليذهب غير مأسوف عليه. * أنه لو جاء خالد إلي الحكم.. فهو الذي يستطيع تسويقه للناس.. وليس الشيوعيين وكتاباتهم "الحنجورية"! * أنه يقسم الناس قسمين.. أذكياء. يسعون لتحقيق مصالحهم.. وأغبياء. يقعون ضحية الآخرين في الحديث عن مبادئ لا تُطبَّق. ولم يكن الرجل يغفر لنفسه.. اختياره لشخص توقع أنه سيجد لديه قبولاً. ثم فوجئ باعتذاره.. ومنهم من اعتذر ليس عن شجاعة.. وإظهار مواقف بطولية. إنما لأنه صُدم بتلك الصراحة!!.. التي لم يكن يتوقعها من قبل.. وكان الفصل مصيره لسنوات عديدة.. وكنت من بين الذين دفعوا ثمن الاعتذار. جاء الدور علي محسن محمد. لتوجه إليه الإهانة. عبر الإهانة. مرة بتعيين محفوظ الأنصاري رئيساً للتحرير. ومحسن لمجلس الإدارة. ثم تولي سمير رجب المنصبين معاً. ولن ينسي الذين عاصروا تلك الفترة. مشهد الخروج المهين للرجل من "الجمهورية"!!.. والأكثر إهانة من "الأخبار".. ولا المشهد الأخير بعد أن أصابه المرض. وتحول العملاق إلي جسم طفل صغير.. يحمله السائق في يده. وكأنه يحمل "شنطة". أبكاني المشهد بكاءً مراً.. رغم أنني كنت أحد ضحاياه.. فهل كان المنصب يستحق كل هذا القتال؟!! * * * تولي سمير رجب رئاسة التحرير.. كلف الباقوري بإعداد التقرير اليومي للجريدة. الذي يعرض يومياً علي مجلس التحرير.. ويقيم العدد السابق. ويحدد موضوعاته الجديدة. وذات يوم دخل أحد الموظفين بمكتب رئيس التحرير. إلي اجتماع المجلس. وبيده ورقة.. وقال رئيس التحرير يسأل: مَن الحمار الذي صاغ هذا الخبر؟!.. أمسك الباقوري بالورقة وقام علي الفور.. قائلاً: أنا "الحمار" يا ولدي.. وليس لي مكان هنا!! وفشلت كل الجهود التي بذلها سمير مع وساطات لإقناعه أنه ليس هو المقصود.. وإلا لما كلفه بالمسئولية. ولكنه أصر علي عدم العودة. وأعلن سمير بأنني سأتولي إعداد التقرير.. وطلبت أن ألتقي به عقب الاجتماع. واعتذرت له عن القيام بهذا الدور. وقدر موقفي. ربما احتراماً لبداياتنا رغم تفرق الطرق فيما بيننا. مجرد خواطر.. أذكرها في ود إلي الباقوري. قبل أن تضيع في غياهب النسيان.