الانتماء هو الارتباط والالتصاق الحميم للإنسان بأرض ووطن.. هو "حلول واتحاد" بالمصطلح الصوفي فيمتلك الانسان حب الوطن. ويتملكه ايضا الوطن كلاهما يلتصق بالاخر. يرتبط ارتباط الطفل بثدي أمه التي ترضعه غذاء نقيا كاملا متكاملا أودعه الله في حنايا جسدها فيشب قوي الجسد سليم العقل. بمثل هذا التكوين من خيرات الوطن يأخذ الانسان حقه في التعليم المتطور بمجانية حقيقية ورعاية صحية كاملة وبعدالة متكاملة الأركان ثم حقه في العمل الشريف حتي يشارك في بناء وطنه ونهضته ورفعة شأنه وقوته في عالم لايخشي ولا يحترم الا الاقوياء. كانت قضية حب الوطن القائمة علي الانتماء الصافي قد شغلت علماءنا منذ مئات السنين. ولم يكن تأصيل الانتماء وليد عصرنا الحديث. رسم تراثنا العظيم منهجا واضحا بين الانسان ووطنه تغوص في تراثنا بحثا عن كنوزه الثمينة التي عرفناها وما أكثر ما لم نعرفه بعد من تلك الكنوز التي افقدناها وهي بملايين المخطوطات كما يقول علماء المخطوطات والوثائق والتاريخ. مع أحد هذه الكنوز التي انشغلت بتكوين الانسان المنتمي الي وطنه عندما ينعم بخيراته. نلتقي مع كتاب "الفلاكة والمفلوكون" الصادر عن سلسلة الذخائر - الهيئة العامة لقصور الثقافة - اكتوبر 2003 وكما جاء علي غلافه هو تأليف العالم العلامة الورع الزاهد خاتمة الحفاظ والمحدثين مولانا شهاب الملة والدين أحمد بن علي الدلجي توفي عام 838ه وقد ولد في قرية "دلجا" وهي قرية ترجع الي العصور الفرعونية القديمة كما ذكر بعض المؤرخين القدامي. وفي العصر الحديث كانت تابعة لمركز ديروط محافظة اسيوط ثم صارت الان تابعة لمركز دير مواس محافظة المنيا. اما عن الكتاب فيذكر الدكتور عبدالحكيم راضي في كتابه "مداخل في قراءة التراث العربي" ان كتاب الفلاكة والمفلوكون يمثل نصا كل من المؤرخ وعالم الاجتماع وصاحب علم الاجتماع ودارس الادب "ويبين ان كلمة" الفلاكة من "فلاكت" بالتاء المفتوحة الساكنة وهي كلمة فارسية بمعني العجز والمذلة والفاقة. والمفلوكون هم الفقراء العاجزون ونعود الي ما أوضحه وأبانه كتاب "الفلاكة والمفلوكون" للدلجي الذي سبق به علماء الاجتماع والنفس في عصرنا الحديث الي معان لاحقة تجعلنا نفكر ونتأمل لينجو المجتمع من امراض الفقر عندما يقول : المفلوك. لا جاه له ولامال. وكل من لاجاه له ولا مال فهو مسلوب القدرة لما أن الجاه والمال من أعظم اسباب القدرة. أوهما أسباب القدرة ومن لا قدرة له فهو عاجز عن الوصول الي مطلوباته "وانه تعتري المفلوكين آفات" اكثر من أن تحصي منها الضيق والنزق - أي انقباض الصدر والاندفاع عند الغضب ومنها الإحساس بالقهر ومنها الحقد بسبب ما يلقاه المفلوك من استهانة به واذلال.. وهناك الالام العقلية وهي أقوي من الالام الجسمانية.. من هذه الالام العقلية تألمهم بسبب تشوفهم وتشوقهم إلي المعالي مع حرمانهم منها. وتألمهم بذكر نقائصهم والمبالغة فيها. وتألمهم بسبب اضطرارهم الي الانفراد والعزلة بخلاف ما عليه طبيعة الانسان من حاجته الي التعاون والاجتماع مع غيره. ثم يحذر "الدلجي" من أخطر ما تفضي اليه الفلاكة هو اختلال علاقة المفلوك بمجتمعه حيث تمني المفلوكين تغير الدول وتشوقهم الي ذلك تماما مثل عدم تمسكهم بمكان واحد فسواء عليهم المكان الذي يشعرون فيه بالذل والدولة التي لاتوفر عليهم كرامتهم. وسواء عليهم المكان الجديد مناسبا أو غير مناسب والدول الجديدة أو غير ملائمة فوق الدولة الحاضرة كالبلد الأول. والدولة المتمناة كالبلد الثاني. وقوة الرجاء وقيام احتمال الخير المتعلق بالدولة الثانية حكمه حكم البلد الثاني. يذكرنا بقول الشاعر الذي يحذر إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ نصيب من الدنيا تمني زوالها ما أقوي الانسان المنتمي الي وطنه. المحب المدافع عنه المضحي بدمائه في سبيل ان يحيا ويرتقي الوطن وما اقوي الوطن بأبنائه المنتمين اليه.