عاش الألمان حلماً وحدوياً طويلاً وعميقاً خلال القرن التاسع عشر إلي أن تقدم القائد العسكري بسمارك المحنك شديد الدهاء والفطنة للإمساك بدفة سفينة الوحدة.. ومن قلب بحار شديدة الاضطراب تمكن من تحقيق هذا الحلم بالقوة العسكرية.. وبعد أن خاض حربين الأولي ضد امبراطورية النمسا والمجر والثانية ضد الامبراطورية الفرنسية لكسر مقاومتهما لوحدة الشعب الألماني. وبهذه الوحدة التي تحققت عام ..1871 قدمت ألمانيا درساً لكل القوميات المفتتة التي تتطلع للوحدة ووفرت شعاراً يمكن للحالمين برفعه وهو "الحديد والنار". وبعد 119 عاماً نجح الشعب الألماني في تقديم الدرس الثاني والمعاصر لأنصار الفكر القومي ورجالات العمل الوحدوي عندما تمكنوا من إعادة توحيد وطنهم المقسم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولكن هذه المرة بقوة المارك الألماني الذي يعكس اقتصاداً علي القمة. وإذا كان الدرس الأول قد ألهم القوميين.. فإن الدرس الثاني أوقعهم في دائرة الاحباط.. فليس في امكانية الجميع امتلاك اقتصاد قوي وديناميكي كالاقتصاد الألماني. وإذا كان بسمارك قد أنشأ "الرايخ الثاني" أي الامبراطورية الثانية في ألمانيا فإن أودولف هتلر قد أنشأ "الرايخ الثالث" عندما تمكن من استعادة كل الأراضي الألمانية التي اقتطعها المنتصرون في الحرب العالمية الأولي وأضاف إليها الأراضي التي كان يقطنها ألمان.. ومثل هذا التوسع الذي تحقق سواء بالسياسة أو الدبلوماسية أو القوة العسكرية قد فتح الباب لاشتعال الحرب العالمية الثانية.. بعدها قرر المنتصرون تقسيم ألمانيا للحيلولة دون وجود دولة قوية وموحدة.. وهكذا تبعثر "الرايخ الثالث".. ومع ذلك ظل تعلق الشعب الألماني بالوحدة قوياً ولم تنل منه الهزيمة المهينة ولا مؤامرات القوي الكبري. ويشهد العالم انهيار الاتحاد السوفيتي وتفتت دول العالم الشيوعي في أوروبا الشرقية.. ومن قلب هذا الحدث أو المتغير الجذري يتحرك هيلموت كول مستشار ألمانيا من أجل توحيد الألمانيتين عام 1990 ويشهد التاريخ ميلاد "الرايخ الرابع" الذي يتجنب المسئولون الألمان الحديث عنه.. فالكل يعيش المعني ولكن لا أحد يريد ولو حتي الإشارة إليه.. وهنا يكمن عظمة الشعب الألماني وقيادته. المهم أن التطلعات الكبري للقيادة النازية في "الرايخ الثالث" قد تجاوزتها بكثير من الأهداف التي يمكن أن يحققها "الرايخ الرابع" بأساليب ناعمة وبفضل قوة الاقتصاد وكفاءة الآلة السياسية في ألمانيا التي أجادت الحساب والمناورة والضغط علي الأطراف المختلفة. هذا التواضع الألماني لم يتمكن من اخفاء الأهداف العظمي للسياسة الألمانية المعاصرة والتي تحققت في أمور شتي وفي مناطق كثيرة من العالم. وقد تمكن الكاتب الكبير عبده مباشر والذي يمكن وصفه بأنه أحد الخبراء في الشأن الألماني من إصدار كتاب جديد يحمل عنوان "ألمانيا والوحدة.. والطريق إلي الرايخ الرابع" يعالج فيه القضية الألمانية عبر التاريخ وصولاً إلي المرحلة المعاصرة.. واستطاع الكاتب بأسلوب سهل ومبسط إعادة رصد الأحداث الكبري في التاريخ الألماني وصياغتها ووصفها في هذا الكتاب التي تحتاجه المكتبة العربية. هذا النجاح القومي الألماني الجديد والطريق الأوروبي نحو مزيد من الإنجازات في عصر ما بعد القوميات.. يجب أن يفتح الباب أمام أهل الفكر والعمل القومي العربي نحو عمل عربي وحدوي كحل لحالة التخلف والاحتلال والقمع والتشرذم التي يعيشها العالم العربي خاصة أنهم لم يحصدوا سوي الفشل منذ لحظة البداية حتي الآن. درس للشعوب .. لم يتوقف أحد من الشعب الألماني ليسأل ماذا سيأخذ.. بل كان كل همهم ماذا في وسعي أن أعطي.. ولم يبخل المواطن بأي جهد من أجل الخروج من مرحلة الدمار إلي مرحلة الصدارة العالمية بعد أن ابتلع الجميع كبرياءهم ودارت عجلة العمل والبناء فتحقق لهم ما أرادوا.