* لا أعتقد أن حكم براءة مبارك ونجليه وحبيب العادلي ومساعديه كان مفاجأة لأحد .. فكل من تابع المحاكمة الثانية لمبارك ووزير داخليته علي شاشات التليفزيون.. واستمع إلي شهادات الشهود.. واستمع كذلك إلي دفاع المتهمين عن أنفسهم.. أحس بأن الموقف قد تغير عما كان عليه الأمر في المحاكمة الأولي.. وهو بالفعل كذلك.. جرت المحاكمة الأولي في ظروف مغايرة تماما سياسيا وشعبيا.. لم تكن بعد قد ظهرت المعلومات التي أصبح الكل يعرفها عن تآمر الإخوان علي ثورة يناير.. ربما كانت المعلومات تكاد تشي بهذا التآمر.. منذ الشهور الأولي التي تلت 25 يناير.. وما تطورت إليه أحداث الثورة.. وتآمر الإخوان.. والاعتصامات.. وقطع الطرق.. والطرف الثالث.. واللهو الخفي.. وجمعة قندهار.. والدستور أولاً أم الانتخابات أولاً.. كل هذا كان يشي بأن الإخوان يطبخون طبخة بدت واضحة منذ هبوط من جعلوه يشبه الخوميني حين وصل من منفاه بعد ثورة إيران.. فساقوا نبيهم ومفتيهم القرضاوي لكي يهبط بالطائرة. ويذهب ليؤم صلاة الجمعة في ميدان التحرير.. ثم يبعد الإخوان كل الأطراف التي تقدمت للميكرفون في ذلك اليوم لينفردوا به.. وهكذا وضح ما هو القادم؟ .. وبدأ الناس يدركون أن هذا القادم خرج عما حملته الأيام الأولي ليناير.. وأصبحت الفتاوي بالكفر والتكفير سيدة الموقف.. وأصبح التصويت في الاستفتاء الأول هو غزوه الصناديق.. أمور كلها كانت تشير إلي أن الأمور قد تغيرت تماما.. وأن سيطرة الإخوان.. والتيارات المستترة بالدين تمشي بسرعة بالغة.. إلي الاستحواذ علي مقدرات الوطن.. وما جري بعد ذلك كله معروف.. وفي هذا الجو جرت المحاكمة الأولي.. ومع ذلك لم يستطع القاضي أن يحكم بغير المؤبد.. رغم الجو السياسي العام الذي كان يحيط بالمحاكمة وينادي بالإعدام للجميع. بعد المحاكمة الثانية كانت الوقائع ملك الجميع.. أصبح الرأي العام كله يدرك بشكل عام ماذا حدث في 25 يناير.. أصبح يعرف من تآمر وكيف تآمر.. وفضح الإخوان أنفسهم.. ولم يستروا أطماعهم.. وأعماهم جشعهم.. فلم يمهلوا أنفسهم حتي يسيطروا بهدوء.. وهكذا أراد الله أن تعمي أبصارهم.. وقلوبهم.. وأن يثور شعب مصر عليهم ويقصيهم بعد أن افتضحت مخططاتهم ومؤامراتهم.. وظهرت كل أدلة خيانتهم واختطافاتهم لثورة يناير وارتكابهم لكل الأحداث التي تلت يوم 25 يناير.. من موقعة الجمل.. إلي القناصة.. إلي ماسبيرو وأحداث محمد محمود.. وحرق الكنائس.. والطرف الثالث.. واللهو الخفي.. هل هناك شك في ذلك الآن؟.. في هذا الجو العام جرت المحاكمة الثانية التي قدمت فيها أدلة جديدة.. وظهرت تسجيلات وصور تطوع بها الكثيرون ممن عاصروا الأحداث وسجلوها ثم قدموها إما للمحامين الذين ترافعوا أمام المحكمة.. وإما لأجهزة الشرطة التي وجدت فيها ما يثبت تآمر الإخوان عليها.. وكل هذا لم يكن متاحا في المحاكمة الأولي. باختصار من استمع إلي هذا كله وشاهده يعرض علي هيئة المحكمة كان يدرك أن الحكم هذه المرة لا بد أن يختلف.. ومن استمع إلي القاضي الجليل المستشار محمود كامل الرشيدي. وهو يشرح الجهد الذي بذله في أرشفة وثائق وصفحات القضية التي تجاوزت مائة وستين ألف صفحة. أدرك أيضا أن القاضي الجليل يريد أن يقول شيئا ولكنه لا يفصح عنه.. وكان هذا الشيء بلا شك أن الوثائق التي أتيحت والشهادات التي قدمت اختلفت تماما عما كان في المحاكمة الأولي.. كما أن الجهد الخارق الذي بذله القاضي الجليل وأعضاء هيئة المحكمة. كان أيضا جهدا فوق الطاقة.. وقد أرضي القاضي الجليل ضميره.. وعبر عن خشيته من عقاب الله سبحانه وتعالي.. وأكد أنه لا ينظر إلا لما يرضي ربه وضميره.. وعاد القاضي الجليل يكرر هذا أيضا يوم إصداره حكمه.. بالبراءة التي توقعها الكثيرون نتيجة متابعتهم لأحداث القضية خلال جلساتها المذاعة علي الهواء مباشرة.. والمنشورة وقائعها في الصحف.. وهي براءة كانت متوقعة.. ولكنها كانت صادمة لمن لم يروا الفرق بين محاكمة مبارك علي جرائم جنائية.. يحكم القاضي فيها طبقا لما هو متاح أمامه من أوراق.. ومحاكمة مبارك علي جرائم إدارته للبلاد 30 سنة بسياسات جانبه في كثير منها الصواب.. وسخرها -خاصة في سنواته الأخيرة- لحساب حفنة معدودة من رجال الأعمال الفاسدين. ومن أسرته التي كانت تحلم بوراثته.. وأهمل في مقابلها كل ما كان شعبه يتطلع إليه من: "العيش والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية".. واستساغ لنفسه ولنظامه أن يزور إرادة الشعب.. وأن يتحالف مع عصابة الإخوان.. ويتقاسم معها برلماناته المزورة.. ولقد كان القاضي الجليل يدرك هذا كله.. وهو ما سبقه إليه أيضاً القاضي الجليل أحمد رفعت.. فسجل كذلك في بياناته قبل حكمه بالمؤبد علي مبارك. إدانته لفساد حكم مبارك الذي لم يكن يحاكم أمامه محاكمة سياسية علي فساد حكم طال إلي 30 سنة.. وكان القاضي الجليل المستشار محمود كامل الرشيدي يدرك أن فترة حكم مبارك التي استطالت -كما قال- إلي 36 سنة منها 6 سنوات نائبا للرئيس.. ليست موضوع المحاكمة.. كما أن القانون يغل يد القاضي عن أن يحاكمه في جريمتين إحداهما سقطت بالتقادم.. والثانية حفظتها النيابة.. ثم أعادت تقديمها كما هي دون جديد.. فحكم بألا وجه لإقامة الدعوي فيها.. وكما أن القاضي أشار إلي هاتين الجريمتين.. فإنه أيضا أشار إلي جرائم مبارك في إدارة الوطن.. والتي كان يجب أن يحاكم عليها.. فكانت إشارته إليها بمثابة حكم بالإدانة لمبارك ونظام حكمه.. يفوق حكمه بالبراءة.. لأنه يبقي أمام التاريخ كحكم يدين عصرا بأكمله ويصمه بكل مبررات الثورة عليه في 25 يناير.. وهو ما يجب أن يكون أمام كل الذين انتفضوا يعترضون علي حكم البراءة.. ويتيحون الفرصة لعصابات الإخوان والمناصرين لهم.. والذين يدينهم الحكم بارتكاب القتل الذي نسبوه إلي مبارك والعادلي ورجاله وكذلك.. وعصابات المخدوعين فيهم أو المتحالفين معهم.. للاندساس بينهم وتهديد أمن وأمان واستقرار الوطن.. والمشاركة في تنفيذ مخطط الإخوان في إشاعة جو الفوضي في البلاد.. علي هؤلاء جميعا أن يدركوا أن هذا ليس حكما بالبراءة.. وإنما هو حكم بالإدانة.. ينتظر التنفيذ.. والتنفيذ لن يأتي إلا عندما يصدر قانون جديد للمحاكمات السياسية.. وهو أمر أصبح واجباً حتي تمضي مسيرة الوطن.. وقد تطهر من كل من أفسد وخان.. وأضاع فرص الوطن في التنمية وتحقيق الرخاء والعدل والمساواة لكل أبنائه..