في الثامن عشر والتاسع عشر من شهر يناير من عام 1977، تظاهر آلاف المصريين احتجاجًا على الارتفاع الجنوني في الأسعار وإلغاء دعم الخبز، وتصدت سلطة العسكر بكل وسائل القمع لتلك المظاهرات، ولكنها لم تصل إلى الحسم، لذا لجأت السلطة إلى عمائم الأزهر التي تأكل وتشرب على موائد العسكر لتهدئة الوضع، ولكن المستشار “حكيم منير صليب” كان له رأى آخر، فهو القاضي الذي تحدى السادات وحكم ببراءة المتهمين في قضية انتفاضة يناير. وقال المستشار حكيم منير صليب، في حيثيات الحكم: “والذي لا شك فيه وتؤمن به هذه المحكمة ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها, أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار, فهي متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب”. مضيفا: “ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن ترد تلك الأحداث إلي سبب آخر غير تلك القرارات, فلقد أُصدرت على حين غرة وعلى غير توقع من أحد، وفوجئ بها الناس جميعا بمن فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل أن يستطيع أحد أن يتنبأ بها ثم يضع خطة لاستغلالها ثم ينزل إلى الشارع للناس محرضًا ومهيجًا!”. وهكذا برأ ال”حكيم” شرفاء الوطن, واتهم النظام نفسه بالتسبب فيما حدث. انقلب السحر حوّل القاضي منير صليب المحاكمة إلى محاكمة للنظام الحاكم نفسه، متحدثا بلسان الملايين من أبناء الشعب المصري صارخا بآلامهم في وجه ظالميهم، فيقول: “ولكن المحكمة- وهي تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها تستكشف عللها وأسبابها وحقيقة أمرها- لا بد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية في ذلك الحين، وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحي الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصري”. مضيفا: “فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم, ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودًا مستمرًا في الأسعار مع ثبات في مقدار الدخول, ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية وتمتزج بها امتزاجًا, فهم مرهقون في تنقلهم من مكان لآخر بسبب أزمة وسائل النقل، وهم يقاسون كل يوم وكل ساعة وكل لحظة من نقص في الخدمات, وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان وتطرق اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم خاصة من الحصول على مسكن، وهو مطلب أساسي تقوم عليه حياتهم وتنعقد آمالهم في بناء أسرة المستقبل”. ولخّص المستشار حكيم منير صليب السبب المباشر في اندلاع الانتفاضة، وهو غلاء الأسعار في الوقت الذي كان يعد فيه النظام برئاسة السادات بالرخاء والرفاهية, فيقول: “وسط هذه المعاناة والصعاب كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسئولين والسياسيين من رجال الحكومة في ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء, وتعرض عليهم الحلول الجذرية التي سوف تنهي أزماتهم, وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة المقبلة عليهم, وبينما أولاد هذا الشعب غارقون في بحار الأمل التي تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء, إذ بهم وعلى حين غرة يفاجئون بقرارات تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التي تمس حياتهم وأقواتهم اليومية”. ليسوا حرامية! ويضيف المستشار حكيم منير صليب: “هكذا دون إعداد أو تمهيد فأي انفعال زلزل قلوب هؤلاء الناس، وأي تناقض رهيب بين الآمال وقد بثت في قلوبهم قبل تلك القرارات, وبين الإحباط الذي أصابهم به صدورها, ومن أين لجأ هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل إلى أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون!”. وتابع: “وإذا بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير, وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق متنفسا، وإذا بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين, وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا, وإذا بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التي أنهت الرخاء وحطمت الآمال، وحاولت جهات الأمن أن تكبح الجماح وتسيطر على النظام، ولكن أنّي لها هذا والغضب متأجج والآلام مهتاجة”. لم يبرئ القاضي العادل “حكيم صليب” شرفاء الوطن المتهمين في القضية فقط, بل برأ الشعب كله من التهمة التي اتهمه بها الرئيس “المؤمن” محمد أنور السادات، الذي وصف الانتفاضة التي اندلعت من الإسكندرية إلى أسوان بأنها “انتفاضة حرامية”، ووصفها ال”حكيم منير صليب” بأنها “انتفاضة شعبية”, “انتفاضة الخبز”!. يشار إلى أنه بعد انقلاب 2013 والإطاحة بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي؛ تم إقصاء العشرات من القضاة وأعضاء النيابة الإدارية وقضايا الدولة بتهمة الانتماء لحركة “قضاة من أجل مصر”، والعمل لمصلحة جماعة الإخوان، والاشتراك في فعاليات سياسية لمساندة مرسي، كما تم إدراج بعضهم على قائمة الإرهاب بعد اتهامهم في قضايا هزلية مختلفة لفقها لهم السفيه السيسي. قضاء العسكر وصدّق السفيه السيسي على قانون الهيئات القضائية، وهو القانون الذي تم تفصيله خصيصًا لبعض القضاة الذين لم ينصاعوا لإرادة العسكر، وأبرزهم المستشار يحيى دكروري نائب رئيس مجلس الدولة، صاحب أول حكم ببطلان اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، والذي رفض في عزة وكرامة الانصياع لأوامر السفيه السيسي بعدم الكلام في هذا الموضوع، وحكم بما أملاه عليه ضميره، والذي حرمه القانون من رئاسة المجلس. وكذلك المستشار أنس عمارة، نائب رئيس محكمة النقض وأقدم المستشارين سنا وعضو تيار استقلال القضاء، والذي ألغى عددا من الأحكام الهستيرية التي أصدرها عبيد العسكر، مثل حكم القاضي ناجي شحاتة في قضية اقتحام قسم كرداسة، والذي حكم فيها بإعدام 183 إنسانا، وحرم من رئاسة المجلس الأعلى للقضاء. هذا التلاعب بالسلطة القضائية ستكون نتائجه وخيمة ضد ملايين المصريين، الذين سيحرمهم القانون من قضاة محترمين، بعدما صار القضاة أدوات للعسكر في التنكيل بالناس، فصار الحبس الاحتياطي الذي يمتد إلى عدة سنوات بديلًا قانونيًّا عن الاعتقال، فصار الظلم والباطل قانونيا. وكذلك الأحكام الهستيرية التي صدرت من قضاة الانقلاب في عشرات القضايا، حتى تخصص بعضهم في الحكم بالإعدام على عشرات الأبرياء بكل أريحية، بل وخرج أحد القضاة ليعلن خصومته مع أحد المتهمين في الإعلام، ويتحدث في بعض المواضيع السياسية التي تخص بعض القضايا التي ينظرها، ويحكم فيها بأحكام بالغة الظلم، دون أن يمثل للتحقيق أو المحاسبة!.