طالت والله الغفوة، وامتدت السكرة، وتأخرت الإفاقة، وتباطأت اليقظة، وامتدت الحيرة الفكرية، وتعمّق العجز العقلى، وتقاصر الفهم الدعوى، وهذا مما زاد الليل ظلاما، والحياة اغتساقا، وأفسح المجال لكثير من المسيرات الراعنة، والمواكب الشاردة، لتدشين عصر من الشرود، وإضافة حلقة إلى حلقات الصراع المجنون. وكان يجب على أصحاب الفكر الإسلامى: أولا: أن يضعوا فى مخططاتهم قياسات لحجم التخلف الفكرى والمنهجى والسياسى فى الساحة الإسلامية، حتى يمكن التعامل معها بحسابات صحيحة، وخطط واضحة المعالم حتى لا يتحول هذا الفكر إلى خناجر مُصلتة تُغمس فى رقاب العمل الإسلامى المؤثر على الساحة، والذى يحارب من جهات كثيرة لتؤهله للقيام بدور فاعل فى الحياة الإسلامية خصوصا والحياة العالمية عموما. ثانيا: كان ينبغى رصد هذا الفكر ومواطن خندقته، ومواقع رءوسه ومحركيه وطرق استغلاله وأساليب دفعه باتجاه الصدارة وتزيينه، والاستشهاد له، والتعصب لنهجه، وجعله هو القاعدة للتوجه الإسلامى، واتهام ما عداه ووصمه بالخروج عن الدين، أو المروق من الشريعة، مع النيل من المفكرين والسائرين على النهج الصحيح. ثالثا: كان يتوجب على العاملين فى الحقل الإسلامى أن يرصدوا هذه التوجهات الفكرية اجتماعيا وقوميا وسياسيا لتفعيلها وتبصيرها بما يجب أن تعلمه من واقع الأمة، وواقع القوى المعادية، وواقع العالم من حولنا، وواقع التحدى الذى نتعرض له، وما الأدوار التى يجب أن يضطلع بها الجميع فى تكامل فكرى، لا استئصالى. رابعا: كان يفترض أن يفطن إلى مواطن الضعف وإلى الثغرات التى من الممكن أن تستغل فى جدار هذا الفكر الذى يجهز ويُفعّل اليوم ليكون البديل الوحيد، والممثل الذى يُعد ليقوم بالدور الإسلامى فى الأمة، ولتساس الأمة من أفكاره وأطروحاته حتى يبقى عليها فى غياهب التاريخ قابعة فى قاعة متربعة على أطلاله، والغريب فى الأمر أن كثيرا من السلطات فى الأمة فرحة بهذا الدور، مسرورة بهذا الفكر، وتعمل جاهدة على ترسيخه وتدشينه والترحيب به لأسباب لا تعود عليها ولا على الأمة ولا على الإسلام بأى نفع، بل بالعكس تعود بالوبال والثبور والضياع الذى يتمناه الأعداء ويفرحون به ويباركون خطواته. خامسا: كان يجب أن يمثل هذا الوضع تحديا أساسيا أمام العاملين فى الحقل الإسلامى، وأن يوضع فى بؤرة الاهتمام الدعوى والجهادى، لأنه الرصيد الحقيقى لتخلف الأمة والعون الأساسى الآن ومنذ زمن للاستعمار بشقيه العسكرى والثقافى، والعقبة الكئود أمام العمل الإسلامى الجاد للنهوض بالأمة متوازيا مع عقبات كثيرة ومتنوعة أمام السيادة الإسلامية الحقيقية على الأمة، وقد ظهرت أنواع من هذا الفكر فى فترات متعددة فى التاريخ الإسلامى، وكان يمثل خطورة على توجهات الأمة المسلمة، وعلى كفاءاتها فى مواجهة أعدائها، فظهر الفكر البدعى أيام التتار وكان سببا فى وهن الأمة وضعفها وتهميش دورها الجهادى والعقدى، فتصدى لهذا الفكر الإمام ابن تيمية -رحمه الله- واستطاع أن يوقف هذه البدع، وأن يظهر جوهر الدين الصحيح، ويرد الناس إلى قوة العقيدة الصحيحة فى الاعتماد على الله وترك الخرافات والضلالات، ثم توارى هذا الفكر وظهر بعد ذلك فى أيام الضعف فى الأندلس، وكان سببا من أسباب الضياع والوهن، واعتمد الناس على شيوخ يقولون فيُسمع لقولهم، ويأمرون فينفذ أمرهم لأنهم أولياء لله تبارك وتعالى تظهر على أيديهم الخوارق والكرامات، فالنار لا تؤثر فيهم، والثعابين طوع إرادتهم لا تؤذيهم ولا تعصى لهم أمرا، يفعل الرجل منهم ما يفعل فهو مصدق وإن هدم أركان الشريعة أو خالف أوامر الله ونواهيه، مما جعل المسلم لعبة طيعة فى أيدى دجاجلة يلفتونه عن أهدافه وعن غاياته فى سبيل شهواتهم وهالاتهم الكاذبة بعيدا عن شرع الله ومنهجه، ثم ظهر هذا الفكر ثانية فى الشرق، وكان له من الأثر السيئ على تلك الشعوب، خاصة فى أيام الاستعمار الذى شجع هذه الحركات وهذا التوجه، وعمل على احتوائه ومناصرته حتى يكرس به جهل الأمة وتخلفها، إلى أن جاءت حركة التجديد الإسلامى الحديث، وكان من أقطابها: محمد بن عبد الوهاب، والأفغانى، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وحسن البنا فى المشرق، وابن باديس، والإبراهيمى، وغيرهما فى المغرب. فاجتهد العلماء فى دفع هذا الفكر، وبعد عناء طويل استطاعوا أن ينقذوا الأمة من الهلاك، واستطاعت بعد ذلك أن تقف فى وجه الاستعمار وتخرجه، ثم ظهر بعد ذلك فكر (إسلام الشعائر) وهو حصر الإسلام فى الشعائر الدينية، وترك ما عدا ذلك أو تهميشه، والاهتمام بالفروع والمظهريات والتدقيق فيها إلى حد التفسيق للمخالف. وفى هذا يقول الإمام الشاطبى: (هذا من التكلف والتنطع والتعسف وطلب المحتملات والغلبة بالمشكلات، وإعراض عن الواضحات والواجبات، وهذا يخاف عليه التشبه بمن ذمه الرسول فى قوله: «هلك المتنطعون»)، قال العلماء هم الذين يضيعون الزمان بما لا طائل تحته، ويكثرون من التفريعات على المسائل غير المفيدة، ونادرة الوقوع، فيصرفون بها زمنا كان الأولى أن يصرفوه فيما يعود على المسلمين بالنفع والخير، وهؤلاء عقبة فى سبيل معرفة الأولويات والانشغال بهموم الأمة والعمل على انتشالها من هزيمتها فى الميادين المختلفة تكنولوجيا وصناعيا وعلميا وحضاريا. ثم برز بعد ذلك الفكر المذهبى، ولا شك أن المذاهب الفقهية ثروات عقلية ومنهجية وحياتية عظيمة لا توجد فى أمة من الأمم، تثرى العقلية الإسلامية وتفتح أمامها الآفاق، ولكنها مع كل ذلك اجتهادات وآراء تحمل فى كثير منها طابع العصر الذى عاشته، والحوادث التى خالطتها وصاحبتها، والنوازل التى لاحظتها، ونحن اليوم فى عصر آخر، وقد وجدت من الحوادث والنوازل عندنا ما يقتضى اجتهادا آخر على الأصول، وهو الكتاب والسنة، وما يحتاج إلى نظر وفقه يجب أن يقوم العلماء فيه بدورهم كما قام الأولون بدورهم، وعندنا كتاب الله وسنة رسوله، وعندنا الطرق التى رسمها لنا فقهاؤنا للاجتهاد والنظر، فلم تتعطل الآلة العقلية الإسلامية، ويُراد لها أن تعيش دائما كلا على غيرها، ولا تفتح عقلا، أو تزكى نفسا أو تسعد حياة أو تقدم حلا لمشاكل كثيرة، ونحن نعلم أن الإسلام جاء للدنيا ليخرجها من الظلمات إلى النور، ولماذا يُجَرِّم هذا الفكر المذهبى كل عمل حضارى لا يتعارض مع النصوص، ويبدع ويفسق ويتوعد كل من فكر وتعب ليحكِّم كتاب الله وسنة رسوله فى قضايا الساعة وينهض بالأمة من كبوتها الحضارية والعلمية؟ ولماذا يُراد لنا أن نقف بغير فهم ولا استيعاب عند عصر من العصور، ونلغى كل تفكير إسلامى حضارى مبهر، وحركة طالبان اليوم مثل لهذا الاتجاه الذى يريد أن يدمر بغير فهم كل مظهر من مظاهر العصر، مثل: تعليم البنات، ومنعهن من الخروج من المنازل، وتدمير التلفاز، ووسائل الإعلام.. إلخ. وقد يتساءل المراقبون: مَنْ الذى دفع بهؤلاء الأغرار من الطلبة ومحفظيهم من أمثالهم إلى صدارة الأمة الفكرية والحرية والسياسية؟ وما المقصود من ذلك؟! مع أنهم يهدرون حقوق الإنسان، وتلك هى الذريعة التى يُدين الغرب بها الشعوب لتركيعها، ولا إدانة لهؤلاء، لأنهم بفكرهم هذا يؤدون مهمة ضرب التوجه الإسلامى المستنير، ثم ضرب الإسلام نفسه بإظهار جهل هؤلاء وفظائعهم وسفههم للعالم ليرى الناس الإسلام حينما يحكم، ثم يكون بعد ذلك الانقضاض على هؤلاء الأغرار، والإتيان بحكم علمانى، أو بظاهر شاه أو غيره، وتنتهى المسرحية، ولا عزاء للمغفلين. ولكن هل يكون ذلك درسا آخر للنابهين والعاملين المخلصين؟ نسأل الله ذلك.