القرآن اليوم عند الكثيرين إلا من رحم الله عقيدة مُجمَّدة.. دون حركة ولا إيجابية، وشريعة معطَّلة دون عمل ولا تطبيق ولا تنفيذ ولا التزام، وأمة ضعيفة تفرَّقت لا كيان لها، ومجتمعات لاهية أغلبها لا يقيم لكل ما ذكرنا وزنًا أو قيمة. ورجال الدعوة الإسلامية وحملة المنهج الإلهى بُحَّت أصواتهم وهم يُذكِّرون أمتهم بهذا الميراث الذى جاءهم من عند عليم حكيم؛ لإنقاذ البشرية والأخذ بيد الإنسانية، وفى مقدمة العالم أمة هذا الحق وحملة هذا المنهج روَّاد الخير، وطلائع الداعين إليه، وأصحاب الصحوة الإسلامية الذين يُحارَبُون فى كل مكان ويُفتَرى عليهم كذبًا وبهتانًا بكل ألوان الافتراء، وما عليهم إلا أن يزدادوا ثباتًا وتفانيًا فى سبيل هذا الحق وفى إعلانه وإيصاله للجميع؛ راجين من الله تعالى أن يتنبَّه النائمون وأن يفيق الغافلون ويعودوا إلى ربهم، نعم على الداعين إلى الله المجاهدين فى سبيل الله الراجين لرحمة الله أن يزدادوا إيمانًا مع إيمانهم فى أن هذا الكتاب يهدى للتى هى أقوم، فهو الوحى من عند الله مالك الملك ومدبِّر الأمر، هو القرآن الذى لم تتمالك الجن إذ سمعته إلا أن قالوا "إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِى إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا" (الجن: 1، 2). يقول شَهِيد الإسلام رحمه الله صاحب الظلال فى معنى قوله تعالى: "إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِى أَقْوَمُ" (الإسراء: 9): "هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقوامًا وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان، ويشمل ما يهديهم إليه كل منهجٍ وكل طريق، وكل خيرٍ يهتدى إليه البشر فى كل زمان ومكان. يهدى للتى هى أقوم فى عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة التى لا تعقيد فيها ولا غموض، والتى تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية فى تناسق واتساق. ويهدى للتى هى أقوم فى التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعلمه، فإذا كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التى لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهى مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجَّه الإنسان به إلى الله تعالى؟ ولو كان هذا العمل متاعًا واستمتاعًا بالحياة. ويهدى للتى هى أقوم فى عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع النفوس والرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال. ويهدى للتى أقوم فى علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادًا وأزواجًا، وحكومات وشعوبًا، ودولاً وأجناسًا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التى لا تتأثر بالرأى والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض.. الأسس التى أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم فى كل أرض وفى كل جيل، فيهديهم للتى هى أقوم فى نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولى اللائق بعالم الإنسان. ويهدى للتى أقوم فى تبنِّى الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية فى سلام ووئام". ولقد تحدَّث الأستاذ بعمق وشمول عما يحمله القرآن من مُبشِّرات ندية تداعب قلوب الذين آمنوا بالقرآن وعملوا به عما يُكِنّه الله عز وجل لهؤلاء أهل القرآن وخاصته وحملته والمجاهدين فى سبيله، أن جزاءهم عند الله سبحانه عظيم ومكانتهم عند الله عالية، يقول الحق تبارك وتعالى فى هذا: "ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" (الإسراء: 9). ويكمل الأستاذ حديثه "فهذه هى قاعدته الأصيلة فى العمل والجزاء، فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثانى مقطوع لا ركيزة له. وبهما معًا تسير الحياة التى هى أقوم.. وبهما معًا تتحقق الهداية بهذا القرآن". إن المتصدر للكتابة عن الإسلام والمسلمين اليوم، ما دام يملك العقيدة التى تفرض عليه الاعتزاز بدينه، إنما يدفع الثمن باهظًا من أعصابه ونبضات قلبه وخلجات نفسه، فهو يكتب وكل إحساساته ومشاعره تتجه إلى الإسلام، وهو يكتب أيضًا وكله حنين فى أن تعود هذه الأمة إلى سابق مجدها بين الأمم، بل تعود إلى القيادة والرِّيادة والعِزَّة والكرامة، كما قال الحق تبارك وتعالى فيها: "ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ"، وهذا ما يرجوه كل مؤمن لأمته من مكانة بين الأمم وغاية ترفرف بين العالمين. والله أكبر ولله الحمد..