إن الأخوة الصادِقة هى الميثاق بين المؤمنين يربط كيانهم برباط الحب ويؤلف بينهم فى السراء والضراء، وفى الحرب والسلم، ويقِيم الأمة على أساس التعاون والتناصح، وهى ألزم للمؤمنين العاملين من الطعام والشراب؛ لأنها روحٌ جديدة بعد الإيمان بالله تعالى، والتصدِيق بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام البنا، رحمه الله تعالى: "أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأعلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار، "ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ" (الحشر: 9)، والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا: "والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ" (التوبة: 71)، وهكذا يجب أن تكون". والأخوة فى الإسلام رباطٌ إيمانى يقوم على منهج الله عز وجل، وهى مِنةٌ إلهية لا تباع فى حانوتٍ ولا تشترى من سوق، قال تعالى: "وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 63)، وهى صفة ملازمة للإيمان بالله سبحانه، فلا أخوة بدون إيمان، ولا إيمان بدون أخوة، ولا أخوة دون تقوى، ولا تقوى بلا أخوة. أوصى بعض السلف ابنه فقال: "يا بنى، إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا خدمته صانك، وإذا صحبته زانك.. اصحب من إذا مددت يدك له بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن رأى سيئة سترها.. اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدّق قولك، وإن حاولتما أمرًا أمّرك، وإن تنازعتما شيئًا آثرك". ومن حقنا أن نتساءل ونلِح فى السؤال ونطالب بالجواب: أين الأخوة اليوم؟! وأين الوفاء؟! هل أصبحا عملةً نادرة وحل محلهما التقاطع والتدابر وعدم الوفاء؟! لقد قال الحق تبارك وتعالى: "إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ" (الحجرات: 10)، وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن لا يظلِمه ولا يسلِمه، وإن سابه أحدٌ أو شاتمه فليقل إنى صائم.. إنى صائم"، وهذه الكلمات قلَّ أن تجد مسلمًا لا يحفظها أو يرددها، ولا تجد داعية يغفل عن الكلام فى شأنها، حتى لتعتقد أنها أصبحت من البدهيات والمسلمات التى لا تقبل عند أحد من المسلمين جدلا، وحين تنظر حولك فى المجتمعات تجد ما يؤلم ويدعو للأسف، فالتقاطع والتدابر لا حد لهما مما يؤسف له. وعلى الحركة الإسلامية أن تعِيد البناء، بناء الأخوة الذى أصابه ما أصابه إلى ما يجب أن يكون عليه، ولا تستطيع ذلك إلا إذا صدقت فعلاً وتقاربت وتآخت، وحين يرى الناس هذا الحق حيا وواقعًا يعيش بينهما سيقبِلون مسرعين إلى تلبية النداء والالتزام بالواقع العملى الذى رأوه وشاهدوه، كما يلزمهم أن يلتزموا هم بعقيدة الإسلام السمحة التى لا تعقيد فيها، والغلو فى الإسلام مكروهٌ فى كل شىء، والمتكلف لا حظّ له من حقيقة هذا الدين كما قال أسلافنا، "عمل واحدٍ فى ألفٍ أجدى من وعظِ ألفٍ لواحد". ولذلك نرى أن الإمام البنا حين التزم صدقًا بهذا الحق، وحين عمل به، ودعا إليه، وجاهد فى سبيله نرى عمق أثر دعوته فى الأمة، وتعلقِها بهذا الحق، وإصرارها على نصرته مهما كلفها ذلك، فلم يؤثر فيهم الإرهاب الذى تفنن فيه الأعداء، كل هذا لم ينفع فى توهين عرى الإسلام فى المؤمنين ولا اهتزاز ثقتهم بربهم، بل زادهم الضيق والأذى والتعذيب والسجون والمعتقلات إيمانًا ويقينًا بأنهم على الحق، وقالوا لما شاهدوا ذلك كله ما قاله أسلافهم "ولَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ومَا زَادَهُمْ إلا إيمَانًا وتَسْلِيمًا" (الأحزاب: 22)، وازدادوا يقينًا بما قاله الله لهم وللمؤمنين فى كل زمان ومكان "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" (آل عمران: 186).. قالوا هذا بصوتٍ عالٍ مسموعٍ أمام المحقق الذى يصلح لأى شىء إلا أن يكون محققًا، وللقاضى الذى تنطبق عليه جميع الصفات إلا هذه الصفة،فقد بعدوا عن صفاتهم الحقيقية وهى العدل، وأصروا على الظلم والطغيان والبغى فكملت القِصة، هذا يضرب بسوطِه، وهذا يصدر الأحكام ويسب بلسانه.. ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا. لقد عمل الإيمان والأخوة والحب عملها فى رعاية الإخوان بعضهم بعضا، فكان الأخ يعود من التعذيب محمولاً وكل جزئية فى جسمه تسيل دمًا من السياط، وإخوانه يرفقون به رفقًا لا يجده الواحد لدى أبيه وأمه ولا إخوته، ولم يشعر الأخ المعذب بمثل هذا العطف طوال حياته من قبل ولا من بعد إلا بين من أحبوه لله وصدقوا فى حبهم له. إننا حين نذكر أن المعركة ضد الإسلام ليست معركة محلية أو إقليمية تحدها ظروف منطقة بذاتها، بل هى معركة عامة يتولى كِبرها قوى عالمية حاقدة وكارهة لهذا الدين.. تطارد امتداد الإسلام فى كل مكان، فعندها نستطيع أن نقول: إن الدروع التى ندافع بها عن أنفسنا، أو نحفظ بها طاقاتنا هى يقظة العاملين للإسلام، ورباط الإيمان، والأخوة بينهم وسد الثغرات التى يدخل منها أعداء الإسلام، ويتسلل منها المرجفون، والحق تبارك وتعالى يقول "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ" (الصف: 4)، فهم صف متضامنٌ ثابتٌ كالبنيان المرصوص، فكل فردٍ فى المجتمع الإسلامى يجب أن يعيش لذلك، ولا يعيش لنفسه ولا لدنياه، والمسلم لا يربى ولا يبنى إلا فى صف مؤمن، والحق تبارك وتعالى يعلِن أنه يحِب هؤلاء، ويرضى عنهم ويكرمهم، فهم يجاهدون فى سبيله، ويسعون لإعلاء كلمته، إنهم لا يجاهدون فى سبيل أمجادٍ شخصية، ولا لسيادة لون على لون ولا لعصبية، ولكن لتكون كلمة الله هى العليا.. يقول صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لِتكون كلِمة اللهِ هِى العليا فهو فِى سبِيلِ الله". "اللهم ارزقنا حبك وحب من يحِبك، واجعل حبك أحبّ إِلينا مِن أنفسِنا ومِن الماءِ البارِدِ.. اللهم ارزقنا الأخوة الصادِقة.. اللهم اجعلنا هداة ًمهتدِين.. اللهم تقبل مِنا إِنك أنت السمِيع العلِيم". والله أكبر ولله الحمد.