كان البائع المتجول يمر بعربته الصغيرة وعليها كل ما يملك من فاكهة، ويأتى إليه الناس دون غضاضة لشراء فاكهته، كان ذلك فى الماضى القريب، وكان المظهر الحضارى للبيع والشراء الهادئ له أصداؤه النفسية والروحية حين تفتح أبواب الرزق للبائع الذى تكبد مشقة كبيرة للحصول على لقمة العيش واستجاب له الناس. غير أن الأمور تطورت بعد الثورة فلا ضابط ولا رابط وكأن الثورة تعنى الحرية، والحرية تعنى الفوضى. فالبائع لم يكتفِ بالمرور بعربته أو الوقوف فى ركن ما ينتظر الفرج بل تجرأ على سكان المنطقة، فأتى بمكبرات الصوت على عربة "نص نقل" وأصبح يتجول بها يوميا، وعلى فترات متواصلة ساعات الظهيرة والعصارى. لا يمنعه حر ولا برد من إعلان أسعار الفاكهة واحدة واحدة بصرخات متعمدة، لقد أصبحت الصرخة تسبب فزعا وإزعاجا لسكان المنطقة الذين أجمعوا على أن هؤلاء الباعة لا أحد يقدر عليهم. نحن جميعا نؤيد السعى إلى الرزق من أجل الحصول على لقمة العيش، ولكن إذا أصبح الضجيج متعمدا فى كل وقت فأين السلطة التى تنظم الشارع للناس؟ وإن كنا نتحدث عن النهضة والمظاهر الحضارية فإننا نتحدث عن عوامل تلك النهضة التى تكمن فى ثقافة الشعب وتهذيب سلوكه. وإن كان هناك تعمد لإزعاج الناس وتيئيسهم من الشعور بالاستقرار الذى يسعى إليه مشروع النهضة فلا بد من تدخل الشرطة لضبط الفوضى فى الشارع كقوة فاعلة ومساعدة. ولا يخفى على أحد أن البلاد المتقدمة لديها جهاز متخصص يسمى "شرطة البيئة" و"شرطة النظافة" وهى تعاقب كل من يخرق القانون بفرض غرامات لحماية البيئة من تلوث السمع والبصر وحماية الناس من الأمراض بكافة أنواعها. والمشكلة فى الواقع هى ثقافة شعب تعود على الضجيج ولم يجد من يضع الحدود والقوانين التى تمنع ذلك التلوث. ومن المؤكد أن البيئة الهادئة النظيفة تهيئ للجميع الحافز على العمل والإنتاج. ولا نستغرب إذا علمنا أن مصر تعد من أكثر الدول التى تعانى من التلوث البيئى السمعى. وليست المشكلة فقط فى صرخة البائع المتجول ولا ضجيج أبواق السيارات وفرقعة الألعاب النارية وعويل الكلاب الضالة العقور طوال الليل، إنما المشكلة فى سَن القوانين، وسرعة استجابة الجهات التنفيذية لتطبيق القانون، ومعاقبة كل من يتعدى على حقوق الآخرين بخرق القانون. ثم تأتى بعد ذلك مجموعات التفتيش والمتابعة لتكريس النظام ولا يترك الأمر لتعود الأمور فتنقلب على عقبيها وتعود الفوضى ويزيد التسيب استهزاء بالقانون وصانعيه. ---------------------------- د. رشا عمر الدسوقى الأستاذ بجامعة الأزهر