كشفت أحداث مدينة الفاشر عن فوضى مسلحة فى السودان تتنازعها قوى وميلشيات متعددة ..لم يعد الأمر مقتصرا على الصراع بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع بل تشكلت عدة قوى مسلحة باسم القبائل وباسم حماية الشعب السودانى لكل منها مصالحه ومناطق نفوذه وهو ما يؤكد هشاشة الدولة وانهيار مؤسساتها كما أن هذه الأوضاع تشير إلى صعوبة عودة الدولة السودانية الموحدة كما كانت قبل اندلاع هذا الصراع فى 15 ابريل 2023 خاصة أنه أصبح من المستبعد في هذا المناخ الحديث عن مشروع وطني جامع. الخبراء أكدوا أن المشهد فى السودان يشبه خريطة "ليبيا بعد القذافي"، مع فارقٍ وحيد هو أن التعدد القبلي والعرقي في السودان يجعل الأزمة أكثر تشابكًا. ويرى بعض المحللين أن البلاد تتجه نحو نشوء "مراكز نفوذ" داخل الدولة الواحدة، من "دولة الدعم السريع" في دارفور إلى "منطقة نفوذ الحركة الشعبية" في كردفان، وصولًا إلى "المركز العسكري" في الخرطوم ما يهدد فى النهاية بانقسام الدولة إلى ثلاث دويلات كل منها قواتها ونفوذها ومصالحها بحيث لا تستطيع احداها التغلب على الآخرى أو القضاء على نفوذها والهيمنة على المناطق التى تسيطر عليها .
القوات الصديقة
في قلب بلدٍ كان يُنظر إليه يومًا بوصفه بوابة إفريقيا إلى العالم العربي، بات السودان اليوم مرادفًا للفوضى المسلحة والانقسامات الميدانية، حيث تتنازع أكثر من 100 ميليشيا الولاء بين الجيش وقوات "الدعم السريع"، ولم تعد الحرب هناك مجرّد مواجهة بين جيشين، بل تحوّلت إلى حقلٍ متشظٍ من الولاءات، تتقاطع فيه المصالح القبلية والعقائدية والإقليمية في آنٍ واحد . وأكد الخبراء إن جذور الميليشيات في السودان تمتد إلى عام 1989 مع صعود النظام السابق الذي أنشأ مجموعات "المراحيل" تحت مسمى "القوات الصديقة"، معتمدًا على العرب الرحّل لمحاربة "الحركة الشعبية لتحرير السودان". تلك السياسة فتحت الباب لتقنين حمل السلاح ومنح الرتب العسكرية للمجندين القبليين، لتتحول البنادق إلى أدوات نفوذ وصراع داخلي. ومع اندلاع حرب دارفور عام 2003، ازدادت الأمور تعقيدًا حين اعتمد النظام على الميليشيات العشائرية لمحاربة الحركات المتمردة، فأنشأ قوات "حرس الحدود" التي انبثقت عنها لاحقًا قوات "الدعم السريع". ومع مرور الوقت، تحوّلت تلك القوات إلى جيش موازٍ، يمتلك عتادًا يفوق الجيش الرسمي، ويستند إلى تمويل خارجي وشبكات تجنيد واسعة، لتصبح الدولة أمام "وحش" خرج عن سيطرتها.
فراغ سياسي
اليوم، تتوزع الميليشيات السودانية على خريطة معقدة من التحالفات المؤقتة والمصالح المتقاطعة. بعضها نشأ بدافع أيديولوجي، وبعضها بدافع جغرافي أو قبلي، مثل المجموعات المسلحة في كردفان ودارفور وشرق البلاد. ومع تراجع سلطة الدولة المركزية، غابت الخطط الاستراتيجية للسيطرة على السلاح، وملأت تلك التشكيلات الفراغ السياسي والاجتماعي الذي تركته الأحزاب المنهارة والمؤسسات المفككة. وكشف الخبراء إن انتشار الميليشيات ليس مجرد نتيجة للفوضى السياسية، بل أيضًا لاقتصادٍ حربي موازٍ، حيث تتحول البنادق إلى وسيلة استثمار. فحاملو السلاح في السودان أدركوا منذ سنوات أن الانضمام إلى ميليشيا يعني الحصول على نصيب من السلطة أو الموارد، ما جعل السلاح بطاقة عبور إلى الثروة والنفوذ. وقالوا إن انسحاب الجيش من مناطق واسعة واختفاء الشرطة والأمن من المدن الكبرى، دفع المكونات القبلية إلى تسليح نفسها تحت ذريعة "الحماية الذاتية"، لكن ذلك سرعان ما تحوّل إلى سباق تسلح داخلي غذّته دعوات الاستنفار الشعبي. وهكذا تحولت البلاد إلى فسيفساء من الفصائل المتنافسة، لكل منها راية وسلاح وهدف متغير.
تدخل دولي
في ظل هذا الانفلات، لم تعد السلطة المركزية قادرة على فرض سيطرتها حتى في العاصمة. الميليشيات لم تعد أدوات مؤقتة بيد الدولة، بل صارت دولة داخل الدولة. ومع غياب سلطة قادرة على احتكار السلاح وسن التشريعات، تستمر الدائرة الجهنمية: مزيد من الميليشيات يعني مزيدًا من الضعف، ومزيدًا من الضعف يعني ميلاد ميليشيات جديدة. وحذر مراقبون من أن استمرار هذا الوضع قد يفتح الباب أمام تدخل دولي جديد بحجة حماية المدنيين أو مكافحة الفوضى، خصوصًا في ظل تحذيرات الأممالمتحدة من مجاعة وشيكة في الفاشر وكادوقلي، وتزايد التقارير عن جرائم حرب وانتهاكات واسعة ارتكبتها أطراف النزاع عبر ميليشياتها الحليفة.
تذكرة عبور
وأكد المراقبون أن ظاهرة الميليشيات تفاقمت حين اعتقد النظام السابق والمجتمع الدولي أن استمالة القيادات المنشقة هو طريق للسلام، فكان الانقسام وسيلة للارتقاء السياسي. الانشقاق أصبح تذكرة عبور إلى المناصب والامتيازات، فتكاثرت الحركات المنشقة والمجموعات المؤقتة بحثًا عن غنائم السلطة. وأشاروا إلى أنه بعد حرب 15 أبريل، أعادت سلطة بورتسودان الكرة بتشكيل ميليشيات جديدة، منها "درع السودان" و"المقاومة الشعبية"، بينما وسّعت قوات "الدعم السريع" شبكتها من الفصائل المصلحية مثل "أم باغة" التي اتُهمت بارتكاب مجازر مروعة. مؤكدين أن النتيجة : مشهد ميليشياوي متناسل، بلا قيادة مركزية ولا أهداف وطنية، بل دوامة من الدم والمصالح.
الحرب أم الدولة
واعتبر الخبراء إن هشاشة الدولة هي الوقود الحقيقي لهذه الفوضى، محذرين من أنه ما لم تُبنَ دولة مؤسسات عادلة توزّع الثروة والسلطة بشكل متكافئ، فستظل الميليشيات الوجه الجديد للحكم في السودان. وقالوا إن الأزمة السودانية تجاوزت حدود السياسة والعسكر لتصبح صراعًا على البقاء. دولة بأكملها أصبحت رهينة للبندقية، ولا أحد يعرف أيها ستنطفئ أولًا: الحرب أم فكرة الدولة نفسها.