في ظل أحاديث السيسي وزمرته الإعلامية عن استهداف توسيع المساحات المزروعة بالقمح، سعيًا لتقليص الاستيراد وتوفير الدولار، جاءت شهادة وزارة زراعة الانقلاب بتراجع مساحات زراعة القمح في الموسم الحالي، منذ بداية موسم الزراعة منتصف نوفمبر الماضي وحتى الآن، بنحو 100 ألف فدان عن الفترة نفسها من الموسم الماضي، حسب مصدر مطلع على ملف زراعة القمح بوزارة الزراعة لوسائل إعلام محلية، ليمثل ذلك فشلًا كبيرًا في وقت تعاني فيه مصر من أزمات اقتصادية متعددة وارتفاع الأسعار العالمية للقمح والذرة والزيوت وغيرها، مما يفاقم فاتورة الاستيراد. كما يأتي الاعتراف بتراجع المساحات المزروعة بالقمح في ظل تغول جهاز "مستقبل مصر"، التابع للقوات الجوية، في السيطرة على الأراضي والمشاريع الزراعية والأراضي المستصلحة، لدرجة نزع الأراضي المستصلحة في المناطق الصحراوية بالفيوم والجيزة والإسكندرية ومطروح من أصحابها وضمها لمشاريعه، بهدف الإعلان عن توسيع مشاريعه وتحقيق نجاحات وهمية. وتستهدف الحكومة، ممثلة في وزارة الزراعة، زيادة المساحات المزروعة من القمح خلال الموسم الحالي بنحو 250 ألف فدان، لتصل إجمالي المساحات المزروعة إلى 3.5 مليون فدان، بهدف الحد من فاتورة الاستيراد، حسب مساعد وزير الزراعة لقطاع الخدمات والمتابعة أحمد عضام في تصريحات إعلامية. يشار إلى أن حجم المساحة المزروعة بالقمح منذ بداية الموسم بلغ نحو 2.6 مليون فدان، مقارنة ب2.7 مليون فدان في الفترة نفسها من الموسم الماضي. وتواجه مستهدفات الوزارة العديد من التحديات التي تعوق تحقيقها الوصول إلى 3.5 مليون فدان بنهاية يناير المقبل. وشهدت الأسابيع الأولى من موسم زراعة المحاصيل الشتوية إقبالًا كبيرًا من الفلاحين على زراعة محاصيل أخرى بخلاف القمح لأنها أكثر ربحية، من بينها البرسيم وبنجر السكر والفاصوليا. ووفق خبراء، فإن البرسيم يحقق عائدًا يتراوح بين 40 و50 ألف جنيه للفدان، فيما يحصل الفلاح على 45 ألف جنيه لفدان القمح تشمل تكاليف الزراعة والربح معًا، مما يجعل البرسيم خيارًا أكثر جاذبية اقتصاديًا. ويعطي محصول البرسيم "5 حشات" في الفدان بقيمة 60 ألف جنيه، وبعد نهاية الحشة الأخيرة يعطي متوسط 200 كيلو بذور رباية للتقاوي بقيمة 40 ألف جنيه. ويبدأ زراعته من شهر أكتوبر إلى مايو، بمتوسط 45 يومًا للحشة الواحدة. كما ينافس محصول بنجر السكر أيضًا، الذي ينتج عن الفدان نحو 25 طنًا كمتوسط، بقيمة 2400 جنيه للطن، بإجمالي 60 ألف جنيه للفدان، بجانب أن شركة السكر تعطي الفلاح نحو 20 ألف جنيه قبل الزراعة "تحت الحساب" كتشجيع للزراعة. كما أن زراعة الفاصوليا تعطي ربحًا كبيرًا يصل إلى 60 ألف جنيه في الفدان، مقابل تكاليف زراعتها التي لا تتجاوز 10 آلاف جنيه، ومدة زراعتها ثلاثة أشهر فقط، بالإضافة إلى زراعة الفول الذي يجني الفلاح من ورائه ربحًا كبيرًا يصل إلى 60 ألف جنيه للفدان. ويرى أستاذ الزراعة بجامعة القاهرة نادر نور الدين أن انخفاض معدلات زراعة القمح في أي دولة مستوردة يزيد الضغوط على حجم الطلب العالمي مما يرفع السعر حتمًا. دور الحكومة وبسبب السياسات الحكومية التي تستهدف خفض وتقليص الدعم للفلاح، سواء عبر تقليص مخصصات الجمعيات الزراعية من الأسمدة والتقاوي، على أثر أزمة نقص الغاز، والتوسع في تصدير الأسمدة من أجل الدولار، ارتفعت أسعار الطن إلى نحو 24 ألف جنيه، مما يهدد ببوار الأراضي الزراعية والاتجاه لبيعها أو البناء عليها، لعدم قدرة الفلاح على توفير احتياجات الزراعة الموسمية، التي باتت فوق مستوى تحمله. ويفاقم الأمر تحديد الحكومة أسعار التوريد للمحاصيل الزراعية بأسعار متدنية عن الأسعار التي تشتري بها القمح من الخارج، والذي لا يرقى في درجة تقاويته وجودته إلى المحصول المحلي، مما يدفع بعض الفلاحين لاستعماله كعلف حيواني بدلًا من بيعه بثمن بخس للحكومة. وفي الفترة الأخيرة، ومع ارتفاع أسعار الوقود والعمالة ومستلزمات الإنتاج، ارتفعت تكلفة زراعة القمح والذرة والمحاصيل الاستراتيجية، مما يدفع كثيرًا من الفلاحين لزراعة البرسيم والمحاصيل الأخرى التي تحقق لهم مردودًا اقتصاديًا أكبر. "مستقبل مصر" ووفق خبراء، فإنه بمقارنة متوسط أسعار استيراد القمح خلال 2024 مع مؤشر السعر العالمي، يظهر ارتفاع أسعار الاستيراد المصرية خلال بعض الصفقات. ويرجع ذلك إلى أن الاعتماد القوي على روسيا هو أحد أسباب ارتفاع تكلفة القمح المستورد، لكنهم يؤكدون صعوبة إيجاد بديل للقمح الروسي في الوقت الحالي. ويقول رئيس شركة "يورو كوموديتز" لاستيراد الحبوب، خالد عبد المعطي، إن التكلفة العادلة حاليًا للقمح الروسي منذ خروجه من الأرض وحتى وصوله إلى مصر تُقدر ب229 دولارًا للطن، لكن عمليًا تستورد مصر طن القمح بسعر زائد عن ذلك بما يتراوح بين 50 إلى 70 دولارًا لكل طن. ويرى أن السبب وراء ذلك أن هيئة السلع التموينية تشتري في كثير من الأحيان القمح من شركات لا تمثل المُنتج الرئيسي للقمح، لكنها تعمل في تجارة وتصدير القمح، مما يرفع السعر النهائي بسبب عمولة هذه الشركات فوق سعر الحاصلات الأصلي. وبجانب عوامل العرض والطلب المؤثرة على الأسعار، قد تساهم الرسوم التي تفرضها روسيا على صادراتها من القمح أيضًا في زيادة تكلفته النهائية. ووفق تقديرات اقتصادية، فإن أسعار صفقات استيراد القمح الروسي خلال 2024 كانت الأعلى سعرًا، عند 256.3 دولار للطن، ما يزيد عن متوسط أسعار مناشئ أخرى، خاصة أوكرانيا ورومانيا اللتين يمكن الاعتماد عليهما بديلًا للقمح الروسي بسبب قربهما الجغرافي من روسيا ومن ثم تقارب تكاليف الشحن. وبلغ متوسط أسعارهما في العام نفسه 241.2 و252.9 دولارًا للطن على التوالي. وحسب توقعات مؤسسة "آي إن جي"، سينخفض المخزون العالمي من القمح بنسبة 3.3% خلال الموسم الذي ينتهي في منتصف 2025، بسبب انخفاض الإنتاج لدى عدة منتجين، من أبرزهم روسيا، مما قد يمهد لزيادة الأسعار. وسيكون من الصعب تدبير القمح بأسعار أقل من العام الحالي. فالمؤشرات الأولية تشير إلى أسعار عالمية مرتفعة في النصف الأول من 2025، نتيجة تأثير سوء الأحوال الجوية على محصول القمح بالسلب في بعض الدول، وعلى رأسها روسيا. ووفق خبراء، سيكون 2025 عام اختبار لمدى قدرة المستورد الحكومي المصري على المناورة وخفض فاتورة استيراد القمح، خاصة مع التوجيهات الرئاسية ل"مستقبل مصر" بالحصول على أفضل الأسعار. لكن التجربة ستواجه تحديات ارتفاع الأسعار العالمية مجددًا وصعوبة إيجاد بديل للقمح الروسي. ومؤخرًا، كلف السيسي جهاز "مستقبل مصر" باستيراد القمح من الخارج بدلًا من هيئة السلع التموينية، مما يشكك في قدرة مصر على تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح، يدفع المصريون ثمنه بخفض الدعم التمويني وغلاء أسعار الخبز والمخبوزات، وتفاقم التكاليف.