لكل أمة انتصارات وانكسارات، لكن المرفوض هو عمليات الخداع والتضليل وتزييف الوعي من خلال تحويل الهزائم المذلة إلى نكسات كما جرى في هزيمة يونيو 1967م، أو الاحتفال المفرط بانتصار أكتوبر 1973م رغم أن جيش الاحتلال الإسرائيلي استعاد توازنه بعد أسبوع واحد من الحرب وتمكن من فتح الثغرة "الدفرسوار" وحصار مدينة السويس التي تضم إدارة الجيش الثالث الميداني. لكن ذلك لا يمنع من أن الجيش المصري بعبوره قناة السويس وتدمير خط بارليف قد سطَّر بطولة خالدة من سطور العسكرية المصرية الأصيلة وحتى 14 أكتوبر عندما تدخل السادات بقراراته السياسية، وأفسد خطة الحرب"المآذن العالية" التي وضعها الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس الأركان وقتها. وبعد الهزيمة المدوية في 5 يونيو 1967م، سطرت البحرية المصرية بطولة خالدة لا يمكن التهوين من شأنها في ظل الظروف التي أعقبت الهزيمة المدوية التي أدت غلى احتلال القدس وفلسطين كاملة وسيناء والجولان ومناطق في جنوبلبنان. ورغم بشاعة الهزيمة تمكنت البحرية المصرية في 21 أكتوبر 1967م من إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات بواسطة صاروخين بحريين. وهي المدمرة التي كانت تعد إحدى أقوى القطع الحربية الإسرائيلية آنذاك، والتي لا يزال حطامها يرقد في قاع البحر المتوسط، قبالة سواحل محافظة بورسعيد، وسبق أن اقترح عسكريون إمكانية استخراجها وتحويلها إلى متحف حربي. وهي العملية التي حظيت بصدى عالمي واسع، وبعثت رسالة واضحة للاحتلال أنه لن يسلم ولن يهنأ أبدا ما دام يحتل أرضنا بقوة العنف والإرهاب والتواطؤ الدولي. كان على متن المدمرة لحظة تفجيرها 200 من أفراد الطاقم والمتدربين، قُتل 47 وأصيب 100 آخرون، فيما توفي آخرون لاحقا بسبب بطء عملية الإنقاذ، وفق إعلام عبري. أثارت عملية إيلات، صدمة بالغة في إسرائيل، وقال المسؤولون فيها إنهم لم يتخيلوا هذه المهارة المصرية الفائقة في إطلاق الصواريخ، ولا تزال ذات أثر أليم في إسرائيل، وتحيي ذكرى قتلاها كل عام.
مرحلة جديدة كانت العملية "إيلات" مرحلة جديدة من مراحل تطوير الأسلحة البحرية والقتال البحري في العالم، وأصبح هذا اليوم عيدا للبحرية المصرية، وفق ما قاله في مذكراته المشير محمد عبد الغني الجمسي، آخر وزراء الحربية (الدفاع حاليا) في مصر، ورئيس هيئة العمليات إبان حرب 1973 بين مصر وإسرائيل. https://www.youtube.com/watch?v=S4p3jVD_99M يقول المشير عبد الغني الجمسي في مذكراته عن إغراق "إيلات"، إن المدمرة المعادية ظلت تدخل المياه الإقليمية لفترة ما، ثم تبتعد إلى عرض البحر، وتكرر ذلك عدة مرات بطريقة استفزازية وفي تحرش واضح لإظهار عجز قواتنا البحرية عن التصدي لها. وبمجرد أن صدرت تعليمات بتدميرها عند دخولها المياه الإقليمية، خرج لنشان صاروخيان من قاعدة بورسعيد لتنفيذ المهمة، هجم اللنش الأول بإطلاق صاروخ أصابها إصابة مباشرة فأخذت تميل على جانبها، وبعد إطلاق الصاروخ الثاني تم إغراقها داخل المياه الإقليمية المصرية، بحوالي ميل بحري، وفق الجمسي. وفي كتابه "إغراق إيلات"يوضح الكاتب الصحفي عبده مباشر -الرئيس السابق للقسم العسكري بصحيفة الأهرام- أن نجاح معركة بورسعيد البحرية (عملية إيلات) كان بداية لعصر الصواريخ، الذي لم يكن سرا حينها، غير أن العالم اكتشف مدى خطورة الوحدات البحرية الصغيرة المسلحة بالصواريخ "سطح – سطح" الموجهة. ونتيجة للمعركة، بدأ التطور في ميدان الأسلحة البحرية يسير -وفق مباشر- في اتجاهين: الأول: العمل من أجل درء هذا الخطر، بالتوصل إلى الأسلحة والأساليب التي تكفل التصدي بكفاءة للنشات التي تحمل الصواريخ الموجهة، ذات القدرة التدميرية الفائقة والمؤكدة. الثاني: العمل من أجل رفع كفاءة هذه اللنشات والتوصل إلى الوسائل التي تكفل لها التغلب على وسائل المقاومة والخداع، التي يمكن أن تلجأ إليها الوحدة البحرية الكبيرة للوقاية من خطرها. https://www.youtube.com/watch?v=ctyg-HgS1Z0
رد صهيوني عنيف ورغم بشاعة الرد الصهيوني على العملية "إيلات"؛ حيث قصفت بعد ثلاثة أيام فقط من العملية معامل تكرير ومستودعات البترول في محافظة السويس، كما قصفت مدينتي الإسماعيليةوالسويس، لتضطر مصر إلى تهجير حوالي مليون مواطن من مدن وقرى القناة، وهو إجراء باهظ الثمن لكن أحدا لا يمكن أن يقلل من شأن العملية باعتبارها سطرا من سطور البطولة المصرية التي لا يمكن إنكارها، تماما مثل البطولات العظيمة والرائعة التي سطرتها العسكرية المصرية في الأسبوع الأول من حرب أكتوبر 1973م. ولولا قرارات السادات الكارثية بتوسيع الهجوم أولا ثم الاعتراف بإسرائيل في كامب ديفيد، لكان لنصر أكتوبر قيمة أعلى ونتائج أكثر لمصر وأمنها القومي والعربي.
الطريق إلى "إيلات" في العمل السينمائي الشهير "الطريق إلى إيلات" (إنتاج 1993) خلط صنّاع الفيلم بين تدمير المدمرة إيلات، وبين تدمير الرصيف الحربي لميناء إيلات وجمعهم في عملية واحدة، على غير الواقع، ثم جاء بعده فيلم "يوم الكرامة" (إنتاج 2004) الذي تناول عملية إغراق المدمرة وحدها، غير أنه لم يلق شهرة الأول. ووفق تصريحات متطابقة لأفراد من الضفادع البشرية في البحرية المصرية، التي شاركت في بعض من تلك العمليات، فإن إغراق المدمرة إيلات سبق تدمير ميناء إيلات ب3 عمليات ناجحة، بفاصل 3 أشهر بين الواحدة والأخرى: * الأولى في نوفمبر 1969 بتدمير السفينتين "داليا" و"هيدروما". * الثانية في فبراير1970 بتدمير ناقلة الدبابات "بيت شيفع" وناقلة الجنود "بات يام". * الثالثة في مايو 1970 بتدمير الرصيف الحربي في إيلات كاملا. إن هذه البطولات الرائعة لا يمكن إنكارها من جهة، لكن لا يمكن أيضا التستر خلفها لتمجيد العسكرية المصرية على الدوام حتى لو ارتكب منتسبون لها جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فالثناء على دور السادات في بداية الحرب لا يمكن أن يطمس حقيقة أنه تسبب في تلى ذلك من هزيمة وانكسار، وبطولات حرب الاستنزاف لا يمكن أن تخفي جرائم نظام الطاغية جمال عبدالناصر الذي أسس للسلطوية العسكرية والحكم الشمولي وضيع على مصر فرصة عظيمة للنهضة والتطور. نعم لنا انتصارات كما لنا انكسارات ومن الزيف والخداع تضخيم الانتصارات وطمس الانكسارات بل الأهم هو التعلم والاستفادة من التجارب إذا أردنا بناء مستقبل حقيقي لبلادنا وسط هذه العواصف والمؤامرات التي لا تتوقف. فهل يمكن بعد ذلك المساواة بين جنرالات حرب الاستنزاف الذين ضحوا بأرواحهم كالشهيد الفريق عبدالمنعم رياض وشهداء حرب أكتوبر وقادتها العظام كسعد الدين الشاذلي وغيرهم وبين الجنرالات الفسدة الذين دمروا مصر واغتصبوا حكمها بالانقلابات وحولوا سلاح جيشها لصدور شعبها كما حدث في مذبحة رابعة وأخواتها؟! .. البداية هي تحرير الجيش إذا أردنا تحرير مصر، واستقلال قرارها الوطني والسيادي.