ظل وجهها يطاردنى بملامحه الهادئة وبشرتها السمراء النحيلة، وراح طنين صوتها يعاتب ذاكرتى بقسوة على نسيانها، وكأن بيننا عشرات اللقاءات والحوارات مُحيت من أعماقى بعوامل الزمن، يقيناً لم أكن أعرفها من قبل لكننى بكيت فيها كل فتاة مصرية شكّل ندى الصباح ملامحها، ولونت شمس هذا البلد بشرتها، حقاً لم أكن التقيتها من قبل لكننى أحسست بمشاعر الافتقاد تطوقنى، وأنا أرى الخوف يطل من وجهها قبل الرحيل فى اليوم الموعود!! أتحدث عن شيماء الصباغ، التى قتلوها مرات ومرات، ومثلوا بروحها بلا رحمة ولا ضمير، أتحدث عمن تاجروا بموتها وحولوها إلى سلعة فى مزاد علنى!! عن تلك الفتاة السكندرية التى رفض أهلها المزايدة على دمائها، واستغلال رحيلها فى إشعال الفتن، وتأجيج مشاعر وطن ما زال يجاهد ليداوى أحزانه ويضمد جراحه، أتحدث عن الفتاة التى صنع مدّعو الشرف والفضيلة والتقوى من موتها «هاشتاج» يتنقل فى الفضاء الافتراضى عبر القارات فى مباراة تنافسية لحصد أعلى الأصوات!! ذات الوجوه التى استدرجتها بالأمس للموت، وتركتها غارقة فى دمائها وهربت، شاهدناها فى اليوم التالى تعتلى المنصات وتصدر البيانات، خرج علينا أصحاب الحظوة السياسية والسلطة الحزبية من فوق المنابر يوزعون الاتهامات وأدلة الإدانة! وها هم الإخوان الإرهابيون الذين يغتالون ويفجرون بدم بارد، يسكبون الزيت فوق المراجل المشتعلة، ويتراقصون طرباً فوق موكب العزاء، ويتلذذون بطعم الشماتة والتشفى! وفى موقف عصى على التفسير رأينا د. محمد البرادعى -المنتسب للوطن- يطربه صليل موت «شيماء» فيستيقظ من غفوته مغرداً بعد سبات عميق وطول لأى وحين!! وكأن دوى أصوات التفجيرات التى أزهقت أرواح شهداء الواجب غدراً، وأزيز رصاص الاغتيالات التى يرتكبها حفنة من الإرهابيين المأجورين لم تصل إلى مسامعه! وكأن ما تتعرض له مصر من قتل ودمار وتخريب على أيدى الإخوان الخونة تجار الدين ليس عنفاً! وكأن حراس الوطن الذين يضحون بدمائهم الطاهرة لا يستحقون أن ينعيهم بتغريداته الفضائية، وكأن صرخات ودموع أبناء وزوجات وأمهات جنود وضباط الجيش والشرطة لا ترقى إلى العزاء والتنديد والحزن!! يا سادة يا كرام ليس هناك دماء رخيصة وأخرى زرقاء نفيسة ونبيلة، دماء أبناء الوطن واحدة وأرواح المصريين كلها غالية، فلماذا تقيمون الاحتفالات الكربلائية للبعض وتزايدون على دمائهم وأرواحهم، وتستهينون بدماء وأرواح جنود وضباط مصر الأبطال ضحايا الإرهاب الغاشم؟! إن المواقف الوطنية لا تتجزأ ولا تتداول إلا بعملة الشرف، فلا تبيعوا شرفكم من أجل مكاسب شخصية ودعاية سياسية. إننى هنا لا أتحدث عن مواقف شيماء الصباغ وقناعاتها وآرائها، ولا أسعى أيضاً لاتهام أو تبرئة أحد، ولا أرى أن قيام أحد أفراد الشرطة بهذه الجريمة يمكن أن يدين الجهاز بأكمله، أو ينتقص من مكانة رجال الشرطة ودورهم العظيم فى التصدى للإرهاب، ومن يخطئ لا بد أن يعاقب مهما كان منصبه، ولا أتفق مع الذين يريحون ضمائرهم ويشيرون بأصابع الاتهام إلى تنظيم الإخوان الإرهابى وأعوانه، فالفاعل ما زال غير معلوم حتى كتابة تلك السطور، ولا يجب أن نستبق نتائج التحقيقات التى تجريها جهات التحقيق. ولكن مهما كانت النتائج التى سوف تسفر عنها التحقيقات، فالمؤكد أننا أمام متهمين رئيسيين معلومين شاركوا فى ارتكاب تلك الجريمة، وأعنى هنا قيادات حزب التحالف الشعبى الاشتراكى الذين حاولوا التسلق فوق أرواح شهداء الميادين بالشعارات والورود، بحثاً عن الدعاية الحزبية والمكاسب السياسية، ودفعوا بالفتاة وشباب الحزب إلى التظاهر والاحتشاد فى المكان والزمان الخطأ والخطر فى تحدٍّ سافر للقانون والدولة، ضاربين عرض الحائط بالتهديدات الإرهابية والظرف الاستثنائى الخطير الذى يواجه المجتمع، والمؤامرات التى يحيكها الأعداء المتربصون بنا فى الداخل والخارج، والحرب الضروس التى يخوضها رجال الجيش والشرطة للحفاظ على سلامة وأمن وحدود الدولة المصرية. يقول أديبنا الكبير نجيب محفوظ إن «آفة بلدنا النسيان»، ولكنى أقول إن آفة بلدنا المزايدة والمتاجرة بالدماء والأرواح والآلام والأحزان، آفة بلدنا هى «الأيدلوجية الانتهازية» التى يتوارى أمامها الضمير والشرف خجلاً، وتتضاءل معها معانى الحق والوطنية، وتتوه الإنسانية فى غياهب المصالح والمكاسب الحزبية، تلك الأيدلوجية التى لا صوت معها يعلو فوق أصوات منابر النفاق الثورى والزيف النضالى ومرضى السعار السياسى، الذين يتلونون ويتبدلون ويرقصون على كل الحبال!!