«اسلمى يا مصر إننى الفدا، ذى يدى إن مدت الدنيا يدا، أبدا لن تستكينى أبدا، إننى أرجو مع اليوم غدا» هكذا اعتادت غناء الوطنيات وهى صغيرة، فأى طفلة تمتلك مثل هذا الصوت الجميل لا يطلب منها سوى ترديد ذلك اللون الغنائى وتقليد سابقيها من المطربين، وبمرور الوقت توقفت ليلى عن الأغانى الوطنية -إلا فى المناسبات- واستمرت فى تعذيبى، فصوتها الحنون أظهرته الألحان الأخرى أكثر، فأصبحت ملكة على عرش الغناء العاطفى، كما ابتعدت عن حينا البسيط مثلما تركته أنا أيضاً بعد أن قدم لى أحد أصدقائى فرصة للعمل فى جريدة يسارية بأجر مناسب، فكتبت سلسلة من المقالات الممتلئة بالغضب وبدأ نجمى يلمع فى هذا المجال، ولكنى توقفت فجأة لا بسبب الخوف من الاعتقال فقد اعتدته، وإنما صوتها العذب منعنى أن أكتب إلا عنها أملا أن تتصل بى لتشكرنى أو حتى تشكونى، وهى لم تفعل ذلك أبدا وأنا لم أتوقف عن حبها يوما أو أفوت حفلة من حفلاتها الفاخرة التى تقف فيها لتحيى الجالسين وتوزع النظرات الباسمة على المعجبين -وهم كثر- ولكنها لا تنظر إلىً مطلقا، ربما لا ترانى وسط الشباب الضخام العظام الذى يستطيع الواحد منهم أن يطرحنى أرضا بلمسة من إصبعه أو زفرة من شفتيه، حيث إن جسدى صغير يشبه العصا، نحيل يستطيع الناظر إليه أن يرى عظامى أسفل جلدى، ضئيل وبإمكان أى شخص أن يحملنى بين يديه كالورقة، لا أرى بدون نظارات لذا لا أخلعها أبدا، كما لا أجد مقاساتى بسهولة، فأرتدى تقريبا نفس الثياب كل يوم، ربما ابتسامة من وجهها الغض أو لمسة من أناملها الرقيقة تعيد إلى قلبى حيويته المختبئة وراء أفكارى المهمومة وتحمل لقلبى سعادته الغائبة منذ أمد بعيد. هى وسط الحاضرين بجسد ممشوق ملفوف بفستان عارى الكتفين بلون فاتح كصفاء صوتها الذى يشق الصفوف ليصل إلى مسامعى المرتجفة، ورائحتها كالمسك مميزة بين العطور الفرنسية المنتشرة فى الحفل فتملأ خياشيمى المتلهفة وغناؤها فى بدايته كهديل حمام ثم يعلو ويعلو ليأخذنى لمكان آخر يملأ جوانبه ضوء الشمس الساطع، فلا أستطيع أن أفتح عينى تماما، فيه أناس بلون بشرتها السمراء يرتدون الأبيض ويحملون الدفوف ويرقصون حولها بحركات تشبه ما يؤتيه أهل الذكر وهى تتمايل بخفة تقترب منى وتتسلل إلى روحى وفجأة تشتد رائحة البخور وتدق الطبول وكأنها الحرب، فتبتعد مستمرة فى الرقص ثم تخفت الموسيقى ويهدأ صوتها من جديد فأفتح عينى لأجد الستار انسدل، أنتظرها بالخارج علها تتذكرنى وتطلب منى أن أوصلها ولكن كيف يحدث ذلك وهناك دائما شاب مفتول العضلات يقف بثيابه الفخمة أمام سيارته الحديثة ليصحبها معه. تمر الأيام ويجىء اليوم المشهود، إنه عيد النصر على الأعداء ورغم أن الناس لم تعد تحتفل به فإن المرور مزدحم والشوارع متكدسة بسبب مرور موكب الرئيس القادم خصيصاً لدار الأوبرا ليستمع لليلى وهى تنشد وطنياته المفضلة وها هو الرئيس آتٍ وجميعنا ننتظر ولكن ليلى لم تحضر بعد تأخرت ولا تجيب على هاتفها الخلوى وبعد دقائق علمت بوجود حادثة فى الجوار والإسعاف فى طريقها لإنقاذ ليلى ولكن أى نجدة تلك التى ستصل والعالم قد سكن لتأمين سيادة فخامة زعامة الرئيس. ذهبت لمكان عربتها المقلوبة، ربما لو استطاع أحد أن ينفذ إلى السيارة عبر نافذتها لكانت ناجية؛ لكن بالتأكيد لن يفعل ذلك واحد من هؤلاء الضخام المزدحمين حولها، لن يقوم بذلك غيرى فهذا الشىء الوحيد الذى يستطيع جسدى تحمله أسرعت إلى السيارة وأنا أشعر لأول مرة بالمنحة التى وهبها لى الله، وبعد أن أفسحوا الطريق لى وكسروا زجاج السيارة، دخلت إليها ناديتها فلم تجب حاولت أن أوقظها بيدى، ففتحت عينيها ببطء ونظرت إلىّ نظرة خاصة ليس بها خوف أو امتنان ربما حيرة ولكنها بالتأكيد تختلف عن تلك النظرات التى ترمق بها غيرى.