منذ أصاب الجنون قناة «الجزيرة» عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين فى مصر قاطعتُها ببساطة لأنها لم تعد كما كانت فى بدايتها مصدراً للأخبار وإنما للأكاذيب، فضلاً عن الشعور بالخزى وأنت تشاهد نفراً من أبناء وطنك يمعنون فى إهانة وطنهم والتشهير به، وحتى بعد أن تحققت المصالحة الخليجية الأخيرة واستجابت القيادة المصرية لمناشدة العاهل السعودى مصرَ قيادةً وشعباً أن تبارك هذه المصالحة لم ينفتح قلبى وعقلى على مشاهدة القناة، واكتفيت بسؤال من أعرف أنهم يتابعونها: هل تغير شىء؟ فجاءت الإجابة غير مشجعة، وتأكدت من هذا من تعليق رئيس الوزراء المصرى على أداء القناة ووصفه بأنه مضحك فى اليوم الذى أراده الإرهابيون المخربون يوماً للفتنة فجاء شاهداً على خيبتهم الثقيلة. استعدت ذكرياتى عن قناة الجزيرة حين نشأتها، فقد بدت لنا عملاقاً إعلامياً عربياً يأخذ بأعلى مقومات المهنية، وتمكنه موارده الضخمة من أن يكون فى موقع كل حدث وأن يستضيف معبّرين عن جميع وجهات النظر، ويتبنى قضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين، ويساند العراق ضد الغزو الأمريكى، وحزب الله ولبنان ضد العدوان الإسرائيلى، ويتحيز لقضية الإصلاح فى الوطن العربى، ويساعد على بلورة رأى عام عربى قوى تجاه القضايا القومية. أدمنت مشاهدة الجزيرة وبالذات حصاد اليوم، وبمرور الوقت بدأت تساؤلات وهواجس تطرح نفسها على عقلى: لماذا تسلك القناة سلوكاً غريباً فى بعض الأحيان كأن تنتج وتذيع وتنشر على أوسع نطاق فيلماً عن الحرب الأهلية اللبنانية التى دامت من منتصف سبعينات القرن الماضى حتى نهاية ثمانيناته بكل بشاعاتها فى وقت كان لبنان يتعرض فيه لأزمة تهدد استقراره وتماسكه.. أهو سوء تقدير أم غياب انتماء أم رغبة وضيعة فى الربح أم ما هو أخطر من ذلك؟ ثم تحولت التساؤلات والهواجس إلى انتقادات ورفض عندما بدأ المحللون السياسيون والاستراتيجيون الإسرائيليون يظهرون بانتظام على شاشة الجزيرة للإدلاء بآرائهم وتفسيراتهم بما فى ذلك دفاعهم عن السياسة الإسرائيلية، وقد يفهم هذا من باب تمثيل كل وجهات النظر، وهو ما لم تفعله الفضائيات المصرية التى يرتبط بلدها بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل، والأخطر أنه أصبح من المعتاد أن يدلى هؤلاء الإسرائيليون بوجهات نظرهم التى تتضمن فى كثير من الأحيان انحيازاً فاضحاً إلى السياسة الإسرائيلية دون أن يعلق عليهم مذيع أو يُستضاف من يدافع عن وجهة النظر الفلسطينية والعربية. ثم تغيرت الصورة تماماً مع أحداث «الربيع العربى» وظهور تحيز «الجزيرة» الواضح للفصائل التى تسمى نفسها إسلامية بحيث بدا «الربيع» على شاشة «الجزيرة» إسلامياً وليس عربياً، وتوافقت السياسة القطرية فى بلدان الربيع مع هذا التكييف المفتعل للأحداث بحيث ضجت قطاعات واسعة من الرأى العام فى هذه البلدان بالشكوى من تلك السياسة التى تحيزت بوضوح للفصائل المسماة «إسلامية» ودعمتها مادياً، وبالنسبة لنا فى مصر فإن «الجزيرة» منذ أن تأكد نجاح ثورة 25 يناير بدأت تصورها على أنها صناعة إخوانية مع أن الإخوان كانوا آخر من شارك فيها وأول من ركب موجتها، وعندما أطيح بحكمهم بدأ السعار الحقيقى لقناة الجزيرة ضد مصر وشعبها والتشويه الرخيص لثورة يونيو والدعم المطلق للإرهاب والكذب البواح فيما يتعلق بمصر وأخبارها، والإهانة الحقيرة للشعب المصرى عامة ونسائه خاصة كلما زاد الالتفاف حول قيادته. من هنا جاءت المقاطعة واستمرت حتى بعد المصالحة الخليجية الأخيرة التى باركتها مصر بناء على مناشدة العاهل السعودى العزيز على مصر وشعبها، لكن مقاطعتى استمرت كما سبقت الإشارة، غير أننى وصلت باريس منذ أسبوعين لمتابعة طبية، ولم أجد فى الشقة التى استأجرتها فضائية تتحدث بالعربية أو الإنجليزية -حيث إننى لا أتكلم الفرنسية- سوى قناة الجزيرة، وقلت لنفسى جاءك الموت يا تارك الصلاة، وعاودت مشاهدتها فإذا ب«الجزيرة» كآل البوربون. لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً، فمصر ليست سوى بركان يقذف بالحمم فى كل اتجاه ومظاهرات الاحتجاج تغمر شوارعها، وطلابها لا يتوقفون عن التظاهر فى جامعاتها، وشعبها يعانى من شظف العيش وشرطتها لا تكف عن اقتحام جامعاتها.. وفى إحدى النشرات وجدتنى فجأة أضحك لأن النشرة تضمنت خبراً عن تزايد حالات الانتحار فى مصر فى الأيام الأخيرة، وتضمن الخبر ثلاثة حوادث انتحار، وفى نشرة أخرى كانت القناة بالغة السعادة بأن البورصة المصرية خسرت 21 مليار جنيه أى أقل من 3 مليارات دولار فيما أن بورصات الخليج خسرت مثلاً يوم الثلاثاء الماضى 52 مليار دولار، والخسائر كلها عائدة إلى النزول الحاد فى أسعار النفط.. فما الخطب وما الرسالة؟ والمفارقة أن أنباء «الجزيرة» الكاذبة تكون مصحوبة بلقطات فيديو تثبت محدوديتها الشديدة وكثيراً ما تكون اللقطات قديمة تعتمد على ضعف ذاكرة المشاهدين. لقد أيد بيان قمة الدوحة الأخيرة مساندة مصر قيادةً وحكومةً وشعباً.. فأين قطر من هذا؟ سيقولون كذباً إن «الجزيرة» غير ذات علاقة بالحكومة القطرية وهو هراء لا يستحق الرد، فهل تتصور «الجزيرة» أن بمقدورها أن تحطم مصر؟! تستحق «الجزيرة» الإشفاق حقاً لأنها كالنملة فى طريق سليمان، ومصر ثابتة كالجبال والأكاذيب لا تصنع أدواراً.