لم تعرف مصر فى تاريخها الحديث تلك النخب العلمانية الصريحة التى عرفتها بعض المجتمعات العربية الأخرى؛ كدول المغرب العربى التى عانت من الاستعمار الفرنسى الذى كان استعماراً ثقافياً قبل أن يكون سياسياً. حرص جيل مفكرى النهضة الأوائل فى مصر على صبغ المفاهيم الأوروبية الحديثة بروح الثقافة الإسلامية؛ فالديمقراطية تتحول إلى الشورى، والاشتراكية إلى العدالة الاجتماعية.. وهكذا، ولذلك فإن المجتمع المصرى لم يشهد صراعاً ثقافياً حاداً يصل إلى حد الاحتراب الأهلى واغتيال الرموز الثقافية كما حدث فى الجزائر مثلاً. ولكن الفكر الإسلامى الوسطى المعتدل فى مصر الأزهر تعرض لموجة من التسلف الفكرى المتشدد نتيجة تأثر آلاف الأسر التى سافرت إلى السعودية ودول الخليج بنمط الحياة والتفكير فيها. ومنذ سنوات الثمانينيات شهدت مصر بعض حوادث التشدد والعنف الدينى؛ كحرق نوادى الفيديو ومنع معارض الكتب الثقافية والعروض المسرحية باستخدام الجنازير فى عدد من الجامعات، تلى ذلك قتل المفكر العلمانى فرج فودة ومحاولة قتل نجيب محفوظ وقضية التفريق بين نصر حامد أبوزيد وزوجته وتهديده بالقتل... إلخ. بعد الثورة، عاد مسلسل الفتن الطائفية للواجهة، وعاد مناخ الحصار الفكرى إلى الظهور مرة أخرى، متزامناً مع شكوى كبار المثقفين والمبدعين من استبعادهم المتعمد من كافة المجالس التى نشأت الواحد تلو الآخر لإنجاز مهمة التوافق الوطنى طوال المرحلة الانتقالية. تصاعدت المؤشرات خلال الأسابيع الأخيرة؛ العديد من أغنيات شباب الثورة تختفى من الشاشات، مقالات تمنع وصفحات رأى تغلق، تحرش جنسى مخطط بالفنانة بسمة فى عدد من المناسبات السياسية، فُسر بأنه نوع من التحرش السياسى بالنموذج الليبرالى الملهم لقطاع من الشباب الذى تقدمه مع زوجها عمرو حمزاوى، تلاه بلاغ ضد حفل موسيقى وُصف بأنه حفل لعبدة الشيطان فى «ساقية الصاوى»، وهى صرح ثقافى يقيمه النقاد عادة بأنه نجح فى تقديم إبداعات ثقافية ترفض الابتذال الأخلاقى فى عروضه. هؤلاء الشباب هم أنفسهم الذين يمكن أن تصادفهم فى تجمعات الألتراس، يجمعهم شعور الأخوة الإنسانية حول هدف تشجيع الفريق القومى أو فريقهم الرياضى المفضل، ويمكنك أن تجد جزءاً منهم أقرب للإسلام العصرى، من شباب «سلفيو كوستا»، أو شباب يحملون الخير للمحتاجين فى الأحياء العشوائية ضمن الحملات التطوعية لشباب عمرو خالد، أو جمعية «رسالة» التى نجحت فى جذب أكثر من مائة ألف شاب وشابة مع نهاية عام 2008. ثمة حالة من النفور الثقافى وعدم الفهم من قبل المسلم السلفى التقليدى تجاه ثقافة شبابية جديدة تجسدت فى السلوك السياسى الإنسانى الراقى والإبداعات الفردية والجماعية، لشباب ليبراليين وإسلاميين عصريين، تجلت فى الميدان أيام الثورة، وهو سلوك وإبداع لا يخلوان من بعض نزعات السخرية والتجاوز والانفلات المنظم والمحبب لشباب الثقافة الجديدة، وإصرار لا يلين على عدم التفريط فى قيمتى الحرية وقبول الآخر. سيكون على المفكرين والمثقفين الوطنيين وعلماء الأزهر دور مهم كجسر للتفاهم الممكن بين الطرفين، والأرجح أن جدلاً محتدماً سيدور داخل جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة حول الكيفية الملائمة لإدارة هذه الصدامات المتوقعة خلال الشهور القادمة، وهو ما سيبعث برسالة سياسية للمجتمع وشبابه ومثقفيه ومبدعيه: هل يرغب الإخوان فى العبور بمصر نحو صيغة توافقية بين تراثها الثقافى وبين استشرافها لثقافة عصرية جديدة تحتمل نوعاً من الشطط الخلاق من حين لآخر، أم ستعمل على احتواء الأزمات -مؤقتاً- ومطالبة الرفاق من السلفيين بالصبر حتى مرحلة التمكين؟ وبصيغة أخرى: هل التوافق الثقافى لدى الإخوان هو هدف استراتيجى لمصر المستقبل أم مجرد تكتيك سياسى مرحلى؟